المحتوى الرئيسى

طارق الشناوي يكتب: هل انتهى جيل كوميديا «إسماعيلية رايح جاى»؟

09/04 13:46

فى مثل هذه الأيام وقبل 19 عاماً حدث انقلاب فى مملكة الكوميديا، الغريب أن لا أحد خطط بل ولا أحد توقع، فى شارع «عماد الدين» وفى سينما «بيجال» كانت المفاجأة التى كنت أحد شهودها عندما عُرض فيلم «إسماعيلية رايح جاى» بخمس نسخ فقط، وفى توقيت كان يعتبر فى عُرف السوق السينمائية هو موسم الضعفاء والمهمشين وأبناء السبيل، وفجأة يُفتح أمام الفيلم 25 دار عرض، وكان وقتها هو الحد الأقصى المتاح، فلم نكن قد دخلنا بعد فى عصر دور العرض المتعددة الشاشات، ويأتى الرقم صريحاً وبلا مواربة الإيرادات 15 مليون جنيه، ضعف ما كان يحققه النجم الأول عادل إمام. أول ما فعله وقتها هنيدى أنه وجه صفعة لعادل عندما اعتذر فى توقيت حرج وشائك عن المشاركة فى دور صغير فى فيلمه «رسالة للوالى»، وهكذا تمت الاستعانة بعلاء مرسى، وأظن أن عادل ظل بداخله غضب كامن ضد من كان يلهث وراءه قبلها لكى فقط يمنحه مشهداً فى أفلامه، إلا أن الرسالة وصلت للجميع فى الوسط الفنى وخارجه أن هناك نجما قادما بقوة يقول ويتمرد على مملكة عادل، وتتابعت الأسماء التى حاولت تحقيق النجاح، شركات الإنتاج عاشت فى مرحلة من التخبط، اعتقدت أن المطلوب هو الجيل كله وليس نجما محددا، وهكذا مثلا استعان بنفس فريق «إسماعيلية» الكاتب أحمد البيه والمخرج كريم ضياء الدين والمونتير عادل منير، فقط توجهوا إلى أحمد أدم، بديلاً عن هنيدى، الذى كان قد تعاقد على بطولة «صعيدى فى الجامعة الأمريكية» مع «العدل جروب» بينما آدم صنعوا له فيلم «ولا كان فى النية أبقى» بعد أن تم حذف من العنوان «فلبينية»، وذلك بسبب احتجاج السفارة، الكل كان يحلم بالملايين فلم يحصدوا غير الملاليم، الناس اختارت محمد هنيدى، بصندوق انتخابات لا يمكن تزييف أرقامه، ولكن شركات الإنتاج كثيراً ما تقرأ الوقائع خطأ، عندما تصوروا أن النجاح فى التوليفة.

وكأن التاريخ يعيد نفسه، عندما قررت مارى كوينى المنتجة الشهيرة عام 1956 بعد عام واحد من انطلاق عبدالحليم فى «لحن الوفاء»، أن تقدم وبتعضيد من الصحفى الكبير موسى صبرى، المطرب كمال حسنى بطلاً، واستعانا فى فيلم «ربيع الحب» بكل العناصر التى تصوروا أنها تميمة النجاح فى فيلم عبدالحليم، وتعاقدا مع شادية وحسين رياض وزوز نبيل والكاتب محمد مصطفى سامى والمخرج إبراهيم عمارة والملحنين محمد الموجى ومنير مراد، بل وشاعر الأغنية الشهيرة «على قد الشوق» محمد على أحمد، وقدم أيضاً كمال حسنى دويتو مع شادية على غرار أغنية «غنى لى لحن الوفاء» وهو «لو سلمتك قلبى واديت لك مفتاحه»، ولكن الناس كانت قد اختارت عبدالحليم مثلما اختاروا هنيدى بعدها بحوالى 40 عاماً، ولكن يظل أنه وكما قال أحد الفلاسفة فى تحليل الإلهام إن «الآلهة تُنعم علينا بمطلع القصيدة وعلينا نحن أن نُكمل الباقى»، فلم يكمل هنيدى الباقى، بينما مثلاً تكتشف أن عادل إمام واجه الانقلاب فى المملكة بثبات وبعقل يقظ وقلب بارد، وبدأ فى تغيير الدفة، نعم أنا أختلف فى القسط الوافر من اختيارات عادل إمام فى العقدين الأخيرين، ولكن قانون البقاء دفعه ناحية سينما أخرى غير تلك التى جمعته مع الكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة فى أفلام مثل «الإرهاب والكباب» و«طيور الظلام» و«المنسى»، قرأ عادل الخريطة مجدداً وتأمل التغيير الحادث فى الشارع، فقرر أن يلعب بنفس القانون وهو «الروشنة»، وهكذا ستجد أن القوة الضاربة التى تُشكل عمقه الفكرى هو الكاتب يوسف معاطى، قد يتغير المخرج، ولكن هناك دائماً أو فى الحد الأدنى غالباً كاتباً واحداً منوط به مسؤولية تحقيق التواصل مع الشارع، بينما مثلا محمد هنيدى، لم يستطع أن يتدارك حالياً الأمر ويفكر فى خطوة أبعد، من «إسماعيلية»، شركات الإنتاج بعد الزلزال الرقمى لـ«إسماعيلية»، أيقنت أن النجاح الرقمى لا ينسب أبداً لمحمد فؤاد، رغم أن اسمه تصدر الفيلم، ومن المؤكد أن فؤاد، الذى كان يعتقد أن هنيدى لا يزيد أبداً عن كونه مثل عبدالسلام النابلسى فى أفلام حليم يضحك عليه ومنه الجمهور ولكنه يقطع التذكرة لحليم، هناك من أقنع فؤاد وأتصور أنه صار أكبر ضحايا النجاح الرقمى الطاغى للفيلم، فهو الذى كتب فكرته، حيث يروى «إسماعيلية» شيئاً من حكايته مع الفن، حتى أغنية «كامننا» التى كانت هى الأكثر انتشاراً فى الشارع، صارت مقاطع هنيدى التى يرددها بصوته هى سر النجاح، ولايزال فؤاد يعيش تلك المأساة، لاعتقاده أن شركات الإنتاج قد أخطأت، وهكذا فى أفلامه التالية كان يستعين دائما بكوميديان يؤدى الدور التقليدى صديق البطل على أمل أن ينتقم له، مؤكداً للجميع أن سر النجاح لايزال كامناً فيه، حتى صار مؤخراً مستبعداً تماماً من خريطة السينما إلا أن هذه قصة أخرى.

دعونا نعود إلى النجم الذى جاء بناء على طلب الجماهير وفتح الطريق بعدها للعديد من نجوم جيله كأبطال مثل علاء ولى الدين وهانى رمزى ومحمد سعد وصولاً إلى أحمد حلمى وأحمد مكى، على أرض الواقع تعثر هنيدى وتعثر بعدها وفى سنوات متتالية كل الجيل.

الكلمة الشهيرة التى يرددها هذا الجيل وليس فقط «هنيدى» عندما تسألهم عن شباك التذاكر فإنهم لا يذكرون سوى أنه رزق.. ولا شك بالطبع أن الحياة كلها أرزاق، وكما قال الشاعر القديم الذى لا أتذكر اسمه «ملك الملوك إذا وهب/ لا تسألن عن السبب/ الله يرزق من يشاء/ فقف على حد الأدب».

قبل أكثر من 35 عاماً كان محمد هنيدى «كومبارس صامت» ينحنى ويقف على حد الأدب أمام ممثل مغمور رغم أنه موهوب، الراحل خليل مرسى، كان خليل يؤدى دور الملك فى إحدى حلقات فوازير رمضان التى تلعب بطولتها «شريهان» ثم أصبح «هنيدى» بعد سنوات قليلة هو الملك فى دنيا الإيرادات!!

إنه ولا شك طبعاً رزق، إلا أن الإنسان عليه ألا يعتبر أن ما يحققه من مكاسب مثل السقف المتهالك الذى ينهار فجأة على رأس البطل الفقير فى الأفلام القديمة وتتحول الأحجار والزلط والأتربة إلى ملايين تنهال عليه.. فى هذه الحالة بالطبع لا تسألن عن السبب، ولكن عندما يتعلق الأمر بمؤشر صعود وهبوط نجم سينمائى فإنه من الأدب أن تسألن عن السبب!!

كان «هنيدى» يجسد ويدشن مفردات مغايرة تعبر عن شباب جيل العقد الأخير من الألفية الثانية. فهو صاحب هذه الشفرة السرية، وهو الذى يعرف بالضبط كلمة السر، إن الكوميديان فى العادة هو صوت الناس، لأن الكوميديا تستطيع أن تلتقط تفاصيل خاصة فى السلوك وأسلوب التخاطب، إنها فى مجملها تشكل النمط الاجتماعى فى العلاقة داخل الأسرة وفى المدرسة والجامعة والمكاتب والشوارع.. إن الفارق بين الكوميديا والتراجيديا يماثل الفارق بين العامية والفصحى، اللهجة العامية لأنها تتعرض للاستعمال المباشر اليومى فإنها دائمة التغيير لتستوعب كل المتغيرات فى الحياة، أما الفصحى فإنها بطبيعتها الرسمية أكثر ثباتاً وعلى هذا فإن الفنان الكوميدى هو الأكثر قدرة على أن يلتقط أدق التفاصيل والمتغيرات ولغة وأسلوب التخاطب اليومى بالكلمة أو الحركة أو حتى الإيماءة، ويحدث ذلك ربما لا شعوريا فى البداية، ولكن على الفنان بعد ذلك أن يفتح مخه على أعلى درجاته، هنيدى مع مرور الزمن لم يستطع أن يقرأ جيدا الحياة الفنية ليحدد الخطوة التالية، توقف عند مرحلة كان يصلح لها وهو فى الثلاثينيات من عمره، ولا يمكن أن يكملها أيضاً بعد أن تجاوز الخمسينيات، الشاب الباحث عن عروس، بينما محمد سعد حقق فى 2002 بـ«اللمبى» القفزة الرقمية الثانية، ولكن كما أن هنيدى لم يعرف خطوته التالية فإن سعد ظل وسيظل يقدم تنويعات على اللمبى، لن يخطو أبداً للأمام، فصار على الهامش، لا أظن أن الأمل يداعبه فى تحقيق شىء أبعد فى فيلمه القادم «حنكوا فى المصيدة»، هو لايزال يتحرك ببقايا قوة الدفع، النجم الذكى أراه متمثلاً فى أحمد حلمى، تعثر رقمياً فى آخر أفلامه «صُنع فى مصر»، وقبلها فى «على جثتى» لم ينضبط الفيلم كبناء درامى أو إخراجى وينتظر الآن عرض «ألماظ حر»، بينما أحمد مكى أخفق فى «سمير أبوالنيل» وقبله «سينما على بابا»، وأظن أنه متردد فى العودة، كما أن المتاح أمامه بالضرورة تضاءل، آدم صار اختفاؤه مثل حضوره لا يلفت اهتمام أحد، يعود بعد غياب فى «أبى مصعب القرموطى» شخصيته المفضلة، آدم مشكلته أن جيناته فى فن الأداء مسرحية أكثر، ولا تتوافق مع قانون كاميرا السينما، بينما أشرف عبدالباقى، والذى كنا نتصور قبل ربع قرن أنه سيقود ثورة الكوميديا قبل هنيدى، صار الآن يؤدى دور الأب الروحى للجيل القادم، وتحول من هداف إلى صانع ألعاب وصانع نجوم!!

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل