المحتوى الرئيسى

الأمومة مُقابل الخطر.. ''سونيا'' التونسية دخلت ليبيا بحثا عن ابنها ''المُختطف''

09/04 13:32

صغير عمره عام وبضعة أشهر. تحاول والدته تعليمه المشي لكنه ظل يحبو. بأحد الأيام سافر الوالدان من بلدهما تونس إلى ليبيا في زيارة دورية بدافع السياحة. اصطحبا معهما الابن نذير القطاري، وهناك وقف الطفل بمفرده لأول مرة ثم بدأ يسير متعثرا. تندرت والدته وقتها قائلة: "هادا الولد نصه تونسي ونصه ليبي". بعد 25 عاما تحققت نبوءتها بشكل ما، إذ اُختطف "نذير" بليبيا أثناء تأدية عمله كمصور صحفي. اختفى بالدولة التي كان يمرح فيها بالطفولة. ومنذ سبتمبر 2014، لا تعرف العائلة أين يقبع. لذا لم يبق لسونيا رجب-الأم- سوى قطع الشك باليقين، ودخول الأراضي الليبية للبحث عنه بصُحبة زوجها.

حدثت المعضلة في سبتمبر قبل الماضي حين كان المراسلان "نذير" وسفيان الشواربي في مهمة صحفية تابعة لقناة البرقة قبل أن يتم القبض عليهما من حرس المنشآت الليبي "ظلوا أربع أيام لديهم ثم أطلقوا سراحهم". وقتها كان "نذير" بشرق ليبيا واتصل بوالدته طالبا منها إرسال تذكرة طيران كي يعود للديار "وبعد ما فعلنا هيك ما عدنا نسمع منهم شيء.. كأنهم فص ملح وذاب".

عامان لم تُفوّت فيهما "سونيا" يوما دون بحث "كنت أنزل من الصباح ولا أعود إلا في المساء.. كانت المعلومات هي وجهتي.. بينما أحصل على أي شيء أتحرك دون تفكير عسى أن أصل لابني" تقول الوالدة لمصراوي. من وزارة الخارجية، مرورا بكل المكاتب الحكومية التونسية الممكنة تنقلت السيدة. ظل أملها قائما على الدولة حتى تأكدت أنها لن تفعل شيئا "حكومتنا ما بتهتم فينا". تذكر الأم الخمسينية أن الخارجية التونسية طلبت منها عدم الحديث للإعلام "خوفا على حياة الصحفيين"، فصمتت ظنا منها أنهم يعملون على القضية "وفوجئنا إنهم كاذبين والملف ما تحرك".

جماعات متطرفة، قصف، خراب، وحرب ضروس يقودها أشباح لا تتمكن منهم الدولة؛ أشياء وردت لذهن الأم قبل شهر ونصف، حين قررت الذهاب إلى ليبيا. اتهمها البعض بالجنون، فيما كاد عقلها يطيش إن لم تعرف مصير ابنها، سواء كان حيا أو ميتا "كنت أفكر كل لحظة إنه محروم من الأكل والماية والحياة والكاميرا.. وهذا التفكير وحده يقتلني"، ما كانت الحياة هيّنة في ظل شائعات تتقافز لمسمع والدة المصور الصحفي المختفي. اتصالات عديدة أجرتها "سونيا" ببعض أشخاص بالداخل الليبي "ما بنتحرك هون وحدينا لازم يكون معنا حدا من شيوخ القبائل"، بعد تنسيق الظروف وحجز التذاكر جاء السفر منذ أسبوعين فقط.

لا صوت يُسمع سوى هدير محرك السيارة المتجهة لمطار قرطاج. بداخلها يتشاغل الأب بأي شيء سوى الحديث عن وجهته. جدة "نذير" تكفكف دموعها بالإجبار. "سونيا" تُمسك بهاتفها ناظرة لصورة الابن الغائب. لا خوف اليوم.. فقط أمل أنها ستعود معه أو بأخبار يقينية عنه، يبث لها عقلها مشاهد على اعتبار ما سيكون "هشوف نذير وكيفاش اتغير شكله بعد السنتين"، ظلت تُحضر بعض كلمات كي تنطق بها ما أن تراه سالما مرة أخرى.

لم يكن دخول الأراضي الليبية بتلك السهولة. إذ اضطرت الأم لصرف مبلغ "مهول"، تجاوز المليوني دينار تونسي حسب قولها، لكن ذلك لم يكفِ أيضا، فالرحلة كادت تُعطل قبيل السفر بأيام "فوجئنا إنه وزارة الدفاع الليبية طلبت ورقة تصريح أمني"، ذهبت الأم للسفارة الليبية على أمل فهم الأمر، غير أن القدر أرسل لها الإنقاذ "شفت هناك واحد مصري على علاقة جيدة بالأمن.. شرحتلوا القصة وبمكالمة هاتفية طلع لنا التصريح".

وقتما خطت الأم بقدميها داخل ليبيا، ظنت أنها ستقضي أيامها في الهروب من الموت. لكن المرافقون لها وزوجها وفروا لهما أمانا كبيرا، حتى كتبت على صفحتها بموقع فيسبوك: "بيقولوا ليبيا ما فيها دولة.. اما جيت هون اكتشفت إن تونس هي اللي ما فيها دولة".. ضيق استقر بقلب الأم كلما تذكرت المرة الأخيرة التي زارت فيها الخارجية التونسية "كان 12 أغسطس.. روحنا مع صحفي ومحامي لنقول إننا رايحين ليبيا يمكن يساعدوا"، لكن الرد جاء صادما "لو عرفتوا معلومات من هناك تعالوا اخبرونا". لم يقدموا لها مساعدة مادية أو معنوية-حسب قولها- فيما شعرت بتجاوب جيد معها بليبيا، فعقب وصولها صدرت أوامر من المُدعي العام العسكري ووزير الدفاع الليبي بالبحث عن الصحفيين داخل السجون هناك، فيما تعاون مع الأم المكلومة مدير قناة الجبل الفضائية للضغط على الإعلام والمجتمع المدني لنشر قضية الصحفيين بشكل أوسع "وعشان الشعب الليبي يتعاطف معهم".

تمكث "سونيا" والأب بشرق ليبيا، حيث اختفى "نذير". عقب وصولهما أرسلت لوزارة الدفاع الليبية طلب، ترتجي فيه مقابلة الفريق خليفة حفتر-قائد الجيش الليبي- ما اضطرها لتجديد إقامتها حتى الرد عليها، فيما تنتظر أيضا مقابلة مع وزير العدل الليبي بالأسبوع الجاري.

ثمة جهات بعينها تتحفظ على "نذير" حسب اعتقاد "سونيا". منها حرس المنشآت، الجيش الليبي، أو بعض الكتائب المتشددة، لكن معلومة شبه مؤكدة-حسب قولها- جاءتها من داخل ليبيا أن "الشابان أحياء يُرزقون"، وبناءً عليها عقدت عزم السفر. كانت مجابهة مخاطر ليبيا أرحم من صور تتناثر يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها يُظهر "نذير وسفيان" إذ يرتديان ملابس الإعدام "وكأنه قُبض عليهم من داعش"، أو صور أخرى يبدو فيها شخصين تم ذبحهما "انا بعرف شكل جثة ابني. بقدر أحدد إن كان هو حتى لو انا عمياء".

لم تكن الوالدة بحاجة لمن يُكذب الصور، لكن المخابرات التونسية أكدت أن كلها مُفبركة "انا ابني عايش.. لو كان مات كان ربي بعت لي مرسال.. لو كان مات كان هيبقى شرف لي إنه يروح شهيد لكن هو عايش وواجبي أرجع بيه"، تستطرد السيدة بينما تبلع دموعها. مرت الأم ذات الخمسين عاما بتجارب أليمة برحلة بحثها؛ أسوأها إعلان الحكومة الليبية في بيان أصدرته آخر 2015، عن مقتل الصحفيين بيد أعضاء التنظيم وكان التصريح قائم على اعتراف بعض أفراد داعش قُبض عليهم "قالوا إنهم قتلوا طاقم قناة برقة وكان عددهم خمسة" وألقوا جثثهم بمدينة البيضاء شرق ليبيا.. وحينها قررت خلية الأزمة بتونس التنسيق مع حكومة ليبيا للتأكد من صحة المعلومة، غير أن المعلومات لم تُصبح يقينية إلى الآن.

مسلسل الوجع مازال مُستمرا، همسات بأذن الأم من مسئولين تارة، وأشخاص عاديين تارة أخرى، أن وليدها ربما انضم لداعش، أو أحد الجماعات المتطرفة. لم تكن "سونيا" تدعهم يستكملون الحديث، تصفع باب التفكير بوجوههم "ابني كان طفل بجسد ضخم.. ما يحب شيء إلا الأكل والتصوير والخروج.. مالوش علاقة بالسياسة".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل