المحتوى الرئيسى

"ليس هناك بديل": هذه هي الجملة المسؤولة عن تخلّفنا

09/03 14:05

حينما تطرح سؤالاً حول التغيير وتبادل السلطة في البلدن العربية، على الأغلب ستسمع الإجابة التالية: "بمن سنأتي بعده إلى الحكم؟"، أو "ليس هناك بديل". هذه الأفكار التي تعتبر أن الحلول مستحيلة بسبب عدم وجود بدائل من أشخاص أو أحزاب في الفضاء السياسي العربي غير الذين يحكموننا منذ عقود هي أفكار خاطئة تماماً.

إن السؤال المتكرر عن البديل ليس في محله ولا يقود إلى تقدم. والسؤال الملح والضروري هو هل نبحث عن شخص آخر يحكمنا، أم عن منظومة أخرى كاملة يتم حكم الشعب من خلالها؟ ومما لا شك فيه أن الأسئلة الصائبة تؤدي إلى إجابات صائبة، والعكس صحيح.

الذين يطرحون السؤال عن البديل هم أناس عاديون، وحين يطرحونه، فإن ذلك لا يعني بالضرورة عدم رغبتهم في التغيير- فالمأساة التي تحياها غالبية الشعوب العربية واحدة ويشعر بها الجميع بما في ذلك رجل الشارع - بل يعني وبشكل آخر يأسهم المطبق من حدوث التغيير، فهناك نظام قام على مدار عقود بتهميش كل الشخصيات السياسية المعارضة لحكمه، أو المتفقه مع حكمه لكنها تتمتع بشعبية ما، أو هناك احتمال لأن يحوزوا شعبية تطغى على شعبية الحاكم.

مقص الحاكم الواحد أو الحزب الواحد الذي تخلص من كل البدائل المطروحة على الساحة هو السبب في مثل هذا السؤال المحبط، ولا شك في أن أسباب الإحباط مضافاً إليها الإحباط نفسه الذي ولدته فينا، كانت سبباً رئيساً في رجوع النظام القديم بكامل هيئته - مع تبدل المظاهر - إلى بلدان عربية قامت فيها ثورات شعبية ضخمة، أو إلى تعثر الثورة في بلدان أخرى.

"الشعب يريد إسقاط النظام" كان هو الشعار الذي التهم الميادين خلال ثورات الربيع العربي، لم يكن نظام مبارك في مصر أو بن علي في تونس أو علي عبدالله صالح في اليمن مجرد فاترينة لشخص واحد في يده كل مقاليد الأمور ويتحكم في الواقع السياسي والمالي والاجتماعي كيفما يشاء، بل على العكس من ذلك كان الفرد الواحد فاترينة لنظام متشابك المصالح من مجموعات رجال الأعمال وجهات أمنية وقضائية ونخبة عسكرية يصب بقاء الحاكم الواحد في مصلحة كل مجموعة منهم ويضمن سيطرتهم جميعاً على مقدرات الأمة.

وهؤلاء بدورهم يضمنون بقاء الديكتاتور على كرسيه ويجمعون الخيوط النهائية في يده. هكذا تدور اللعبة ولهذه الأسباب لا يصبح الديكتاتور مطلق الحرية كما يحلو للبعض أن يتصور، فحريته هذه مشروطة بضمانه لمصالح النظام المعقد الذي يقوم على خدمته، ويصبح النظام بدوره شديد الولاء لسيده ما دام السيد ملتزماً بالولاء نحو نظامه.

هكذا كان يتحكم في اقتصاد تونس أيام الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي" حوالي ثلاث عائلات، وكان هناك ولاء متبادل بين الرئيس والمؤسسة العسكرية التي خرج منها، وكان المناخ قريباً من هذا الأمر في مصر. وقبل الثورة المصرية في 2011 كان هناك إما سياسيون بارزون في الحزب الوطني الحاكم آنذاك تحولوا لأصحاب ثروات أو أصحاب ثروات انضموا للحزب بشكل تلقائي، وهكذا كانت علاقة الولاء بين نظام الأسد في سوريا وبين المؤسسة العسكرية، بالإضافة للطائفة العلوية التي استخدمها النظام لتكون السوط والضحية في الوقت نفسه.

شارك غردحينما تطرح سؤالا حول التغيير في العالم العربي ستسمع هذه الإجابة: ليس هناك بديل... هذه الجملة مسؤولة عن مأساتنا

كيف نستيقظ ذات يوم وقد قتلنا هذا الأخطبوط الضخم ومن ثم أتينا بعدد هائل من الأفراد الجدد ليحلوا محله، بدا هذا الأمر مستحيلاً وغير واقعي إطلاقاً، ماذا سنفعل مع الفراغ الاقتصادي والإداري الذي سينجم عن ذلك، ماذا سنفعل مع الانهيار الذي سينجم عن هذا الفراغ القاتل؟ ناهيك طبعاً بتشريد عدة ملايين من موظفي جهاز الدولة بأسرهم، ثم أخيراً، وهذا هو السؤال الحقيقي الذي كان لا بد أن نسأله لأنفسنا منذ البداية: ماذا سيفعل رجال الأعمال والأمن والقضاء وجميع موظفي الدولة الجدد وهل سيختلفون بالفعل عن النظام القديم؟ الإجابة هي لا، النظام الجديد سيصبح هو نفسه النظام القديم؛ صورة اخرى مشوهة منه، والسبب في ذلك هو أن الفلسفة التي كان يعمل بها الأب الذي ثرنا عليه لم يقم أحد باستبدالها.

حتى يتسنى للإبن الوليد الذي أنجبناه بعد ثورة أن يكون مختلفاً بالفعل كان علينا منذ البداية أن نخترع فلسفة جديدة لهذا النظام تمنعه من الوقوع في الفساد والاستئثار بالسلطة. فلسفة سوف تكون مقدمة لمنظومة إدارية مختلفة تماماً عن سابقتها. هيكل إداري سوف يتم رسمه على لوحة جديدة ونظيفة تماماً قوامها خطة مختلفة بالجملة. تصميم معماري جديد يلاحق الفساد ويحاصر شبكات المصالح. هنا من الممكن بسهولة أن نستبدل السؤال القديم "بمن سنأتي بالحكم بعده؟" بسؤال آخر وهو: "ما المنظومة الجديدة التي ستحكمنا بعده؟"

إذا استبدلنا سؤال الفرد بسؤال المنظومة، وإذا تخلينا عن شعار "إسقاط النظام" بشعار آخر أعم وأشمل وأكثر عملية وواقعية وهو "إسقاط فلسفة النظام" ربما نكون ساعتئذ قد وصلنا لأول خيط في حل اللغز.

ربما يبدو شعار كهذا هلامياً لا يمكن الإمساك به، كيف يمكن للمرء أن يسقط فلسفة لنظام ما؟ لكن الإجابة كامنة في فهم الآلية التي يعمل من خلالها هذا النظام نفسه، تلك الآلية التي يضمن الحاكم من خلالها ولاء أفراد الأمن والقضاء والنخبة العسكرية له وولاءه لهم على حساب الشعب. فلسفة النظام هي الطريقة التي يعمل من خلالها، ولقهر النظام ينبغي أن نخترع آلية مضادة.

آلية النظام القديم قد تكون جملة قوانين لا تستطيع ان تتصدى لشبكات المصالح التي تنشأ داخل النظام، ومن الممكن أن تكون هيكلاً إدارياً مصمماً بالشكل الذي يستبعد أي رقابة حقيقية عليه، هذا الهيكل ليس مجرد مجموعة من الأفراد يمكن استبدالهم، بل أساسات وأعمدة وخطوط تملأ اللوحة وليس الأفراد سوى قطع صغيرة يتم تسكينها على هذه الخطوط. الهيكل هو الخطة، ويمكن القول إن الشعوب العربية إذا تمكنت من تجنيد جيش من الملائكة ليملأوا الفراغات في خطة بالية وقديمة، فليس من المستبعد بل على الأغلب سيتحول الملاك إلى موظف فاسد في منظومة فاسدة سلفاً، ولنا أن نتخيل في الأفق البعيد شيطاناً رجيماً يحكم الناس من خلال خطة محكمة غير قابلة للفساد، حتماً سيتحول هذا الشيطان إلى ملاك رحيم رغماً عنه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل