المحتوى الرئيسى

فتحى رياض القصبجي: إسماعيل يس "خذله"وفريد شوقى "سنده"

09/03 13:49

- قول.. وما يهمكش حاجة

«هايل يا أستاذ حليم.. أداء الأغنية ممتاز، اتفضلوا يا أساتذة، ساعة راحة، وبعدها نستعد للمشهد القادم».. كانت هذه تعليمات المخرج الراحل حسن الإمام، ينقلها لفريق عمل فيلم «الخطايا» بدلًا منه مساعد المخرج، الآن يتم تجهيز الاستوديو لمشهد آخر، سيظهر فيه لأول مرة -بعد فترة المرض- الفنان رياض القصبجى، الشهير بـ«الشاويش عطية» بعد الراحة، بدأ الجميع يعود إلى مكان التصوير الشهير بـ«الشاويش عطية» بعد الراحة، بدأ الجميع يعود لمكان التصوير، الديكور يتغير، الإضاءة، الإكسسوار، الصوت، الكاميرات، فريق العمل كله فى حالة ترقب وفرحة «الشاويش عطية رجع تانى»! لحظات ودخل عليهم الفنان رياض القصبجى، ليجد الجميع واقًفا فى انتظاره، تصفيق حاد، الفرحة بعودته تحيط بالمكان.. ثم سلامات.. وأحضان.. ووحشتنى يا عمى رياض.. حمدلله على سلامتك.

- مشهد 125 أول مرة.. فيلم «الخطايا» كلاكيت.. اتفضل.. اتفضل يا عم رياض! عم رياض ليس هنا، عم رياض لم يعد قادرًا على الوقوف أمام الكاميرا، وهو الذى قدم عشرات المسرحيات وعشرات الأفلام من أول فيلم «سلامة فى خير» و«على بابا والأربعين حرامى» و«ليلى بنت الأغنياء» وسلسلة أعماله مع الفنان الراحل إسماعيل ياسين، اليوم يقف أمام الكاميرا، ليس قادرًا على الحركة.. تحامل على نفسه قليلاً.. ولكن قوته لم تساعده، ضغط على ذهنه قليلاً، ولكن ذاكرته بدأت تخونه، شد من أزر لسانه قليلاً.. لكن حتى لسانه لم يعد لديه القدرة إلا على الكلام العادى، لحظات انتظر الجميع بمن فيهم الراحل المخرج حسن الإمام.. اللحظات تجمعت لحظة بعد أخرى.. والسكوت فى «اللوكيشن» صنع حالة من الصمت، وفجأة بدأت عيون الفنان «رياض القصبجى» تهاجمها الدموع.. وأثناء ذلك جال ببصره يتذكر أياماً مضت، كان صوته فيها «يهز» المكان. ويذبذب الديكورات من خلفه كلما نطق «بص قدامك يا عسكرى رجب» عندما كون ثنائيًا سينمائيًا متميزًا مع الفنان اسماعيل يس، لكن الزمن له أحكام.. وبعد لحظات من مقاومة دموعه.. انهار ولم يعد قادرًا لا على الوقوف أمام الزمن، ولا الوقوف أمام دموعه.. فسقطت من عينه دمعة، جعلت المخرج حسن الإمام هو الآخر يبكى وهو يقول: فركش.. مفيش تصوير النهارده.. ثم يتقدم إلى رياض القصبجى.. ويأخذه من يده.. وهو يقول له: «الزمن مبقاش زمانا يا قصبجى»، اجلس هنا وارتاح.

.. وبالفعل جلس الفنان رياض القصبجى فى غرفة مجاورة للاستديو، والتف حوله الجميع.. هناك من سلم عليه.. ومن يتكلم معه.. ومن يحضنه.. ومن يشكره.. فالكل حاول إدخال السعادة إلى قلبه، بعدما خذلته قواه الجسدية عن تأدية الدور الذى رشحه له المخرج حسن الإمام، لكن كيف تم ترشيحه لهذا الدور عام 1962 رغم أنه لم يكتمل شفاؤه من الوعكة الصحية التى ألمت به فى أواخر الخمسينات؟ الكاتب عبدالله أحمد عبدلله «ميكى ماوس» كان قد تحدث عن هذه الواقعة قائلاً: «المخرج حسن الإمام سمع ذات يوم بأن رياض القصبجى تماثل للشفاء من الشلل الذى أصابه، وكان شللاً نصفياً نتيجة ارتفاع فى ضغط الدم وأنه بدأ يتحرك ويمشى، فأراد أن يرفع من روحه المعنوية فهو - أى حسن الإمام - فنان يدرك أن الفنان أسعد أوقاته عندما يكون أمام الكاميرا أو عندما يكون على خشبة المسرح، ومن هنا اقترح على أسرة الفيلم إعطاء دور له، والدور بالفعل كان مناسبًا له وكانت هذه لفتة طيبة من «الإمام» وأسعدت الفنان رياض القصبجى كثيراً، لأنه شعر بأنه ما زال محبوبًا ومطلوباً، لكن قدرته الجسدية جعلته غير قادر على أداء الدور.. فعاد إلى بيته مهمومًا وحزينًا وكانت هذه آخر مرة يذهب فيها إلى الاستديوهات.

فى سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد» ذهبت إلى فتحى الابن، الرجل تجاوز الستين عاماً، لكنه يحتفظ بملامح أبيه، وخفة دمه، وبساطة كلماته، جلست إليه، وأنا فى ذهنى صورة أبيه، وصوته، وكلامه، وطريقته فى التمثيل التى تميز بها، قلت له: ماذا يمثل لك رياض القصبجى كأب؟ اعتدل على الكرسى الذى يجلس عليه، وأمسك فى يده قلم رصاص وأمامه مجموعة أوراق وفنجان قهوة، فرغ منه قبل قليل، ثم قال: كان إنسان عادى، يجمع ما بين الشدة واللين، وأظن حالة اللين بداخله كانت أكثر من الشدة، على عكس ما قد يتصور البعض، أحياناً أدواره فى السينما هى التى أعطت انطباع القوة والغلظة عليه، لكن ذلك ليس صحيحاً، أبى كان رجلًا عطوفًا ودمعته قريبة، يفرح من أى شىء يحزن من أى شىء.

- قلت ماذا تعلمت منه؟ قال: الصبر.. وأنا طفل صغير، كنت أخرج معه حتى أكون ذراعه التى يتوكأ عليها إلى أن يصل إلى المقهى الذى كان يحب الجلوس عليه فى وسط البلد، وكنا ونحن نسير جنباً إلى جنب أسمعه يقول: الصبر.. الصبر يا رب، فسألته بطفولة بريئة: ولماذا تقول كلمة الصبر يا بابا؟ فيرد قائلاً: «الصبر مفتاح الفرج» وعندما كبرت عرفت معنى كلامه، وعرفت أنه كان شديد الرضا بما هو فيه، وهذا الرضا كان يستمده من الصبر.

قلت: هل كان تعلقه بالصبر سببه أنه كان يشعر بأن حقه - كفنان - لم يأخذه، مثلما حدث مع من هم أقل منه موهبة؟ لا أظنه كان يتعامل مع الأمر بهذه الصورة، أبى كان رجلًا بسيطاً، يحب التمثيل والحياة والناس، أحلامه بسيطة، كان يقول دائماً: «يا رب.. الستر والصحة»، والحمد لله هكذا عاش «مستور» وتحققت نعمة الستر له، صحيح المرض هاجمه وضغط عليه وأبعده عدة سنوات عن الجمهور، لكنه كان راضياً.. حتى آخر يوم فى حياته.

ولد الفنان رياض القصبجى فى 13 سبتمبر 1903 ورحل فى 23 أبريل 1963، عمل فى بداية حياته العملية كمسارى بالسكة الحديد، وأحب التمثيل منذ الصغر، وبعد فترة انضم إلى فرقة التمثيل الخاصة بهيئة السكة الحديد، ومنها انضم إلى فرق الهواة، ثم فرقة على الكسار، وفرقة دولت أبيض وأخيرًا استقر مع فرقة اسماعيل يس المسرحية.

عدت للابن فتحى وهو ابنه الوحيد الذى رحل أبوه وعمره 17 عاماً، قلت له: أيهما كان أحب إليه السينما أم المسرح؟ قال: المسرح بكل تأكيد.. السينما هى التى عرفت به الجمهور، لكن هو كان يقول المسرح بالنسبة لى عشقى وحياتى، أما السينما فكانت تمثل له نقطة مهمة فى مشواره الفنى، خاصة مجموعة الأعمال التى قام بها مع الراحل إسماعيل يس.

«شغلتك على المدفع بورروم».. بص قدامك يا عسكرى رجب.. اعدل رقبتك يا عسكرى، هذا المشهد يعد علامة بارزة فى مشوار الفنان رياض القصبجى، الذى تألق فى تأدية دور «الشاويش عطية» فى فيلم «إسماعيل يس فى الأسطول» ضمن سلسلة مجموعة أفلام قدمها هذا الثنائى ساعدت - بصورة أو بأخرى - فى رسم صورة للمؤسسات العسكرية، وجعلت الأطفال والشباب فى السنين الأولى من حياتهم يعرفون تفاصيل صغيرة عن تلك الحياة التى كانت دائماً وراء الأسوار الشائكة، لقد زرعت هذه الأعمال - بقصد أو بدون قصد- مفاهيم الرجولة والقوة والزمان والتضحية والوفاء والنظام والالتزام داخل نفوس الأجيال الشابة وجعلتهم يدركون أن هذه المفاهيم بيئتها الحقيقية هى المؤسسات العسكرية خاصة القوات المسلحة.

عدت للابن فتحى، الذى فرغ الآن من فنجان قهوة آخر وقلت له: لماذا لم تتجه إلى التمثيل مثله؟ قال: رفض وبشدة، وقال لى حاول تجعل لنفسك مصدر دخل غير الفن، فالفن لن يؤمن مستقبلك، وسيجعلك تعيش يوماً بيومه، ثم ابتسم وقال: زمان كان النجم رغم نجوميته لا يمتلك سيارة، وكان يعيش فى شقة عادية، وليس شققاً مثل القصور كالتالى نراها اليوم، أبى -على سبيل الذكر- كان يذهب إلى المقهى بـ«الحنطور» قلت له: ربما يكون هو الذى كان يهوى ذلك؟ قال: بالفعل كانت هوايته ركوب الحنطور، وسواء كنا فى القاهرة أو الإسكندرية كان لا يذهب إلى أى مكان إلا بالحنطور، قلت هل ترك لك أملاك؟ قال: نعم ترك لى السند، والسيرة الحلوة وحب الناس، أما لو كنت تتحدث عن المال.. فأبى لم يكن من الشخصيات التى تهوى جمع الأموال، ثم أين هى الأموال التى كانت ستُجمع.. هؤلاء ناس عاشوا للفن ولم يعيشوا للفلوس.

قلت له: كيف كان يقضى يومه فى البيت؟ قال: كان هادئاً طول الوقت، لو كان فيه عمل يذهب إليه؟ ولو كان لديه وقت فراغ، كان يذهب للجلوس على المقهى بوسط البلد ويأتى إليه صديقه توفيق الدقن وبعض الأصدقاء.

- قلت والفنان إسماعيل يس.. ألم يكن من الفنانين المقربين منه؟ رد: تقصد صديق؟ قلت نعم، قال: للأسف ما رأيته -وكنت طفلاً صغيراً لكن كنت مدركاً للأشياء- أن الفنان إسماعيل يس لم يزر أبى فى مرضه ولو مرة واحدة رغم أن أبى أصيب بالشلل النصفى وظل لسنوات يعانى المرض، وجاء له أغلب نجوم جيله والأجيال الأخرى، والمخرج نور الدمرداش وكل أبناء الليثى وتوفيق الدقن، أما فريد شوقى فكان يأتى إلينا فى المنزل بكل ما لذ وطاب من الطعام، لدرجة أن والدتى كانت «توزع» هذا الطعام على الجيران.

هنا توقفت لحظة وسألته: لكن من المستغرب جداً، أن يتجاهل إسماعيل ياسين رفيق نجاحه فى سلسلة أعمال سينمائية «إسماعيل يس فى الطيران والجيش والمطافئ والبوليس» وهذه الأعمال هى التى ساهمت فى نجاح وتربع إسماعيل يس على عرش الضحك لسنوات، ويظل نجاح هذه الأعمال مرتبط بوجود «الشاويش عطية».

فكيف لا يود إسماعيل يس رفيق دربه حتى فى مرضه الذى استمر سنوات، رد الابن وهو متأثر بشدة قائلاً: المفاجأة التى أذهلت الجميع أنه حتى لم يأت للعزاء فيه، قلت لهذه الدرجة؟ قال: آه.. والله، وهذا الموقف كان له تأثير سيئ على نفسية والدى قبل الوفاة.. وكان يسأل.. طيب وهو أنا عملت إيه يا اسماعيل.. إحنا كنا إخوات يا أخى.. طيب تعالى زورنى وأنا عيان.. ثم يسكت أبى ولسان حاله يقول: «مكنش العشم يا راجل»، قلت وهل تأثرت أنت عندما لم يأت ليؤدى واجب العزاء، قال: نعم.. فأنا كنت متوقعاً منه أن يكون بجوارنا فى العزاء.. نحن والحمد لله لم نكن فى احتياج لأحد.. لكن للصداقة والأصول والوفاء أهمية فى الظروف التى يتحتم عليها الوجود فيها.

تركت القاهرة واتجهت إلى الإسكندرية فى بداية صيف 1962 وكان الفنان رياض القصبجى بمفرده ومعه من يقوم على خدمته، خاصة بعدما ساءت حالته النفسية بسبب المرض وانحسار الأضواء وتوقفه عن التمثيل، وكان باقى أفراد الأسرة فى رأس البر، وفى رأس البر كان الابن فتحى هناك، عدت إليه من هناك وسألته.. كيف كانت اللحظات الأخيرة فى حياته؟ قال: كنا كما تعلم فى رأس البر وهو فى الإسكندرية، واتصل بنا وطلب حضورنا فوراً، عدنا إليه بسرعة، فقام بجمعنا حوله وطلب الاستماع إلى صوت أم كلثوم وبدأ يتحدث معنا عن حياته ومشوار عمله من أول مسرح السكة الحديد إلى ما وصل إليه من نجاح.. ثم بدأ يعلمنى كلمات للحياة.. ثم انتقل إلى ربه فى سلام.

«هو بغباوته»، كانت هذه الجملة من كلمات تركت لدى المشاهد علامة، وأصبحت من الجمل الحوارية التى علمت مع الناس على لسان «الشاويش عطية» فى أعماله من زميل مشواره الفنان رياض القصبجى.. تذكرتها بعدما تركت ابنه «فتحى» وأنا عائد بعد ساعتين من الحديث عن أبيه، نصفها كلام ونصفها ضحك.. أما مساحة الحزن فى اللقاء، فكانت قليلة رغم مرارتها.

وشعرت بمرارة الكلام -فقط- عندما جاءت سيرة الفنان إسماعيل يس بسبب إحجامه ورفضه -بدون سبب- زيارة صديقه فى مرضه، وعدم الوقوف بجواره فى محنة المرض وفاجعة الموت.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل