المحتوى الرئيسى

«العويل» للكوري غين... الدنس الديني

09/03 00:28

لم يجد الكوري الجنوبي نا هونغ غين حرجاً في الاعتراف بأبوّة شريطه الثالث «العويل» (156 د) ونطفته العائدة الى اشتغالات معلمين غربيين كبار أمثال الأميركيين ستانلي كوبريك في «ذي شاينينغ» (1980)، وويليم فريدكن في «طارد الأرواح» (1971)، والبولندي رومان بولانسكي في «طفل روزميري» (1968) المعتبرة «أنها مراجع مدرسيّة». المؤسف، لم يعد هناك ما يماثل جودتها، وكل ما لدينا اليوم نسخ مكّررة لها. والعودة اليها ضرورية للتمعّن في صنعاتها». إذن، ما هي إضافته السينمائية؟ يجيب ضمن تعليقه للمجلة السينمائية البريطانية «سكرين إنترناشونال»: «سعيت الى إضافة روح شرقيّة وكورية إلى مفهوم اللغز الدرامي وانقلاباته».

وعلى صنيع كوبريك، يذهب «العويل» الى محيط برّي طافح بالفتنة، لكنه يخفي تهديداً مُوارباً وعقابياً لعثرات البشر ولعدم إيمانهم وأنانياتهم ونكوصاتهم الاجتماعية. ما بدا ككيان اجتماعي متكافل، تتكشف عوراته عبر توالي أخبار ميتات متسلسلة، تخطف أرواح سكان بلدة جبليّة، وتصنّفهم أما ضحايا أو جناة. وبما أن الفئة الأولى تبدو أمرا محتوما، فإن الثانية تُبقي دائرة أفلاكها ضمن ريبات ومطاردات، لتجعل من «العويل» فيلماً متبدّل السحنات السينمائية. هو تارة شريط إثارة من طراز رفيع، وفي أخرى حكاية «زومبي» وجثث حيّة تروّع الجميع من دون رادع حاسم، وفي أخرى تخويف هيتشكوكي يتبنى التسلّي بالسرائر البشرية، وفي رابعتها تسطع روح سينما بولانسكي و «شياطينه من أهل الجيرة» الذين يسعّرون نيران الظنون في وجدان زوجة شابة حامل بأن بكرها المُرتَقب سيولد من «ماء» إبليس مدينيّ يتخفى في أحياء نيويورك، ويسعى الى تأسيس «لوغوس» هرطوقي مُكلّف بإشاعة تجديف طائفيّ يدنس النفوس.

قرين شخصية «روزميري» (كما في فيلم بولانسكي) هو ضابط الشرطة غونغ ـ غو (الممثل كوان دو وون) المنذور إلى تخمين المآثم، وفك عقد سفك دمائها، والكشف عن دوافع مرتكبيها وغموض هوياتهم. حينما تقع الأميركية روزميري في فخّ «باطل عقائدي» ينهار عالمها، ويصبح الزوج فيه صنواً لعفريت، والجيران حراساً سماويين لـ «هيكل عبادة» رأسمالي شرس وحامٍ لقوانين عمالة واستثمار وبورصات، و «مفرّخ» لكائنات فاسدة النسب وبدون ذمم. لهذا لن يكون أمامها سوى إنقاذ بذرتها عبر انتفاضة طهارة من دنس الغرباء. على المنوال عينه، احتاج بطل «العويل» – وهو موظف حكومي – الى إنذارات متتابعة لشحذ شجاعته ومواجهة دخلاء أجمعوا على أذى وسطوات تبدأ كجرائم قتل، وتنتهي بمجهولي «الهوية» الذين «يستملكون» روح ابنته التي تتساءل في بداية الشريط: «أهناك جريمة؟»، لكي يحولوها لاحقا الى روح نجسة وعدوان يخترق المكانة العائلية ومصيرها. ولكي نفهم هذا الدنس ضمن منطقه الدينيّ، يشرح المخرج غين (مواليد سيول، 1974) ان عنوان فيلمه «غوسكونغ» بالكورية هو اسم مسقط رأسه الجبليّ (شمال البلاد)، الشهير بدوامات رياحه التي تُصدر صوتاً يشبه نشيجاً إنسانياً، والذي شَهِدَ في حقب مظلمة اضطهاداً منظماً للمؤمنين الكاثوليك من أهاليه. فَضَل غين، وهو ليس في وارد توثيق ذلك الحيف وتواريخه، استدعاء أرواح خنّاسة لإثبات حالات قهر عبر تأويل عودة غيلان وجثث حيّة الى المنطقة في ألفيتنا الثالثة! لا تجد لّوثة الشياطين مكامنها إلا بين خرائب وقبور ومياه عميقة، ما يفسر مغازي اللقطة الافتتاحية المصوّرة لرجل عجوز (أهو البطل في خواتيم عمره؟) وهو يهيئ صنارته عند حافة بحيرة، إذ من لا يملك يقينه لن يحدس ما سيصطاده. هذا بالضبط ما سيكون على الشرطي غونغ ـ غو تخمينه.

انحاز المخرج غين في أفلامه الثلاثة الى بطل يتعقب نحسه، ويقاوم بمرارة مصائب الشّر التي تنهال عليه وعلى أحبته وخلاّنه. ففي باكورته «المُطارِد» (2008) لا يكون أمام الشاب أوم ـ وهو شرطي سابق وقواد حاليا ـ سوى العودة الى مهاراته لإنقاذ حياتَي بائعتَي هوى تعملان ضمن عصبته، قائداً مطاردة سينمائية طويلة ومدهشة للنيل من المختطف جونغ ـ هو. تتجلى هذه المطاردة بِنَفَسٍ ملحمي مزدوج ومفخّم للأحداث والصدامات في «البحر الأصفر» (2013)، عن سائق سيارة أجرة يعيش في مقاطعة شمالية تقع بين الصين وروسيا، وتتحكم فيها عصابات تهريب البشر الى الداخل الكوري، يقف أمام خيارين، اما دفع ديونه المتراكمة بسبب ولعه بلعب القمار أو تنفيذ عملية اغتيال زعيم عصابة في قلب سيول، وإنقاذ زوجته من مختطفيها. كلا البطلين يجتمعان في أقدار شرطي «العويل» حيث يواجه غونغ ـ غو ظُلامة أسرية تُجبره على خوض «حرب» اقتفاء لآثار مستذئبين يُرهِبون أهله المسالمين، وتُختتم بموقعة دموية، يشترك فيها الى جانبه رجل دين بوذي (شامان)، و «غريب» ياباني (كونيمورا جون). يصعقنا المخرج غين في الفصل الختامي بان الشيطان يتلبسه أمام قس كاثوليكي شاب محروس بصليبه ومسبحته. وشابة هائمة وغامضة (تشون وو هي) هي رائي ميتافيزيقي على جريمة نهائية بطلتها الصغيرة هوي ـ جن وفتكها بأمها وجدتها، قبل ان يقتحم والدها الشرطي مشهد المجزرة ليصاب بلوثته/قصاصه على تردده ولا يقينه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل