المحتوى الرئيسى

كيف غدر رفاق "عرابي" بالثورة المصرية؟

09/02 21:43

شخصية استطاعت أن تصنع ثورة في كل مكان نزلت به، في أفغانستان والهند وإيران ومصر، وحتى منافيه التي كانت بين فرنسا وإنجلترا وروسيا كانت غرفة عمليات لنشر الوعي والتحريض على الثورة والمقاومة.

في 24 أغسطس 1879م هجم مجموعة من رجال الشرطة على رجل معمم الذي يسير في قلب القاهرة متجها إلى بيته قريبا من الأزهر، اختطفوه ووضعوه في قسم الشرطة، ومنه إلى السويس في عربة قطار مغلقة، ثم على باخرة إلى الهند، دون حتى أن يتمكن من أخذ ثيابه أو يعلم به أحد من أحبابه، ولم يكن هذا الشخص سوى جمال الدين الأفغاني!

بدأ الأفغانى يتزعم الحركة الشعبية فى عهد الخديو إسماعيل ضد النفوذ الأجنبى فى مصر، والشارع صار يعطى له القيادة مع عبدالله النديم، غير أنه لم يكن يعلم أنه سيكون كبش فداء لأول ثورة قادمة يقودها الجيش ليطيح بالثورة الشعبية.

واندلعت الثورة العرابية في سبتمبر 1881، فى عهد الخديو توفيق، الذى شارك فى الإطاحة بوالده إسماعيل، والتى قامت بسبب التدخل الأجنبى في شئون مصر، وضعف الجيش، ومعاملة رياض باشا، رئيس الوزراء، القاسية للمصريين، وانتهت بتولى محمود سامى البارودى، أحد رفاق أحمد عرابى، قائد الثورة، وزيرًا للحربية، فى حكومة شريف باشا الجديدة، غر أن التدخلات الأجنبية أجبرت شريف باشا على تقديم استقالته واعتلى البارودى منصب رئيس الوزراء.

تحول "البارودي" من "رب السيف والقلم" إلى وزير إصلاحي، معتقدًا أنه بخلع الخديوي إسماعيل ستسير الأمور في الطريق الصحيح باعتماد النهج الإصلاحي والابتعاد عن الثورة حفاظا على البلد، فاتخذت الحكومة المصرية بعضوية "البارودي" قرارا بنفي جمال الدين الأفغاني من مصر، تجنبًا لأى ثورة شعبية يقودها.

يجيب محمد إلهامي، الباحث المختخصص في التاريخ والحضارة الإسلامية؛ لأن الأفغاني هو الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تصنع ثورة في كل مكان نزلت به، في أفغانستان والهند وإيران ومصر، وحتى منافيه التي كانت بين فرنسا وإنجلترا وروسيا كانت غرفة عمليات لنشر الوعي والتحريض على الثورة والمقاومة، ولأجل هذا –كما يروي جلال كشك- لم يستطع جمع من المثقفين الإجابة على سؤال: هل كان الأفغاني سنيا أم شيعيا؟ لأن الرجل لاقى في بلاد السنة تقديرا عظيما لا يمكن أن يلقاه شيعي ثم هو أشعل ثورة غير مسبوقة في إيران حتى تراجع الشاه عن منح امتياز الدخان لشركة إنجليزية (كانت ستكرر مأساة احتلال الهند) وهو أمر لا يتسنى أن يفعله سني في بلاد فارس لذلك الوقت.

لقد وصفه محمد عبده بقوله: "كأنه حقيقة كلية تجلت في كل نفس بما يلائمها"! وهكذا اجتمع إلى الأفغاني العلماء والأدباء، المسلمون والنصارى، أهل الأزهر وخريجو التعليم الحديث! وهو يبث في كل هؤلاء من روح ثورته، ولقد بالغ بعض المؤرخين مثل كارل بروكلمان فقال فيه قولا مدهشا: "كان الإسلام ولا يزال هو المهيمن على الحياة الدينية في مصر، وإنما يرجع الفضل في ذلك، في المحل الأول، إلى جمال الدين (الأفغاني)".

حتى عبد الرحمن الرافعي –مؤرخ القومية المصرية، وهو قومي حتى النخاع- لا يتردد في وصف الأفغاني بأنه رأس في الإصلاح الديني والفكري والسياسي، وقال بأنه في الإصلاح الديني مثل مارتن لوثر في المسيحية، وفي الإصلاح الفكري مثل روسو ومونتسكيو، وفي الإصلاح السياسي مثل واشنطن وجاربيلدي ومازيني وكوشوت. وهو أمر يُستغرب من مصري بهذا الاعتزاز القومي أن ينسب فضل يقظة مصر والشرق إلى رجل أفغاني غريب!

ومن المهم هنا أن نذكر أن الأفغاني جاب أهم بلاد العالم الإسلامي: أفغانستان والهند والحجاز وفارس ومصر وتركيا، لكن السنين التي قضاها في مصر كانت أخصب سنيه وأكثرها إنتاجا وأقواها تأثيرا.

كان لا بد للإنجليز إخراج هذا الرجل من مصر، وقد كان، وفقدت به الثورة المصرية قائدا لا يعوض، وانتثر شمل تلاميذه من بعده، بل منهم من طلق السياسة واتجه للإصلاح التربوي والتعليمي فلا هو نجح ولا هو ورث شيخه في الثورة.

انتهى الحال بالأفغاني في بلاط السلطان عبد الحميد، السلطان الذي يُشهد له بالذكاء ويُؤخذ عليه التردد، كان عبد الحميد يحتاج الأفغاني في مشروع الجامعة الإسلامية وكان الأفغاني خير من يستطيع القيام بهذا الدور، إلا أن ثورية الأفغاني كانت مخيفة لعبد الحميد.. فماذا فعل؟

لا يجرؤ على قتله، وهو من أشهر أعلام المسلمين وأرفعهم مكانة، ولا يجرؤ على نفيه وإلا لحقت به نفس المهانة التي لحقت بتوفيق وبالحكومة المصرية، فلجأ إلى حبسه.. حبسه في "قفص ذهبي"، جعله أسيرا عنده تحت المراقبة على هيئة المستشار، لا هو يسمح له بالخروج من تركيا ولا هو يأخذ بمشورته، ثم مات الأفغاني ميتة تحيط بها الشبهات وتتوجه أصابع الاتهام فيها لعبد الحميد نفسه.

وهكذا قُضِي على الشخصية العجيبة النادرة المواهب والطاقات.. لقد سُدِّدت له كثير من الطعنات، لكن أقوى طعنتين كانتا من رجليْن مسلميْن صالحيْن: البارودي والسلطان عبد الحميد.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل