المحتوى الرئيسى

أمنية مجدي زوجة الزميل عمر عبد المقصود تكتب عن وجع آخر زيارة له: لن أبكي.. أنا اليوم سيدة بلا شعور بلا لهفة

09/02 17:27

صنع لي في محبسه هدية وجاء بطعام لكي نأكل معًا.. وأنا في عالم موازٍ صامت .. غرقت فيه من كثرة الألم والاحتياج

حاولت دموعي أن تغالبني مرة أخرى عندما اختفى وأيضاً قررت أن أخفيها .. أنا بلا شعور .. أنسيت ؟!

كرهت الشكوى.. وخفت أن يكرهني و يمل مني أي من أصدقائي فقررت الصمت و اعتزلتهم إلا واحدة

لم أنم ليلتها .. لم أكن قلقة، لكن خائفة .. بعد ما حدث في آخر زيارة وددت لو أُنهي ذلك الجزء من حياتي و إلى الأبد .. لم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها.. هناك ما هو أسوأ .. كنت أصمت .. بعض الطاقة جعلني أتحمل ما مضى، والآن نفذت، فصرت طفلة هشة، تخاف مما لا يخيف.!

لم أنم، أو نمت نصف ساعة، لا أعلم، على وجه التحديد، غسلت وجهي فأسناني، نظرت إلى المرآة، لم أعرف ماذا أصاب وجهي اليوم ؟!، كيف أراه أحلى من الأيام السابقة ؟!

طيلة الشهر الذي يسبق هذا اليوم، كرهت النظر للمرآة، كرهت ملامحي، ورأيتني قبيحة، أهرب منها إن وقعت عيني عليّ، اليوم أنا جميلة، ولا أعرف لهذا سببًا، ربما هو جنون لا أكثر، يستحق التجاهل.

قررت ألا أضع الكثير من مساحيق التجميل، فأكتفي ببعض من أحمر الخدود لأن وجهي أصفر اللون، أحمر الشفاه بلون طبيعي وغير ملفت، لم يكن هذا خوفا، لكن لا طاقة عندي للاكتحال، ومحدد العينين، أو إخفاء الهالات السوداء، لن أفعل أكثر من ذلك، لن أتأنق، سأرتدي ما يجعلني أكثر راحة، لا أكثر جاذبية، لا طاقة ولا رغبة لي في أي شيء، لا رغبة لي في الذهاب للزيارة، للمرور بتلك التجربة اللعينة بكل تفاصيلها .

ذاهبة فقط من أجل عمر، أقدر تعبه وحاجته لي، وأدرك جيداً اختلاف تأثير الزيارة على كلينا، فهي كل السعادة الممكنة له في وضعه، و هي كل الألم الممكن لي .

طوال الوقت أهرب من ذلك الواقع، و لكن في الزيارة أضطر إلى مواجهته، أتذكره جبرًا لا طواعية، بمزيد من الكراهية ، ومن منا لا يكرهه ؟!

أعتقد أنني أمر بإحدى نوبات الاكتئاب الحادة حتى أنني قلت لأقرب شخص لي: كُن بجانبي ولا تتركني وعاملني معاملة الأطفال، لأنني أشعر أني أغرق، أو أنني لا أشعر، قلت لها نصا " ممكن تاخدي بالك مني ؟ "، خائفة من نفسي، أسير في طريقٍ مظلم، لا أرى له نهاية، ومع الوقت فقدت القدرة على السير، أريد أن أتعلم من جديد كيف أسير.

ارتديت ملابسي و طلبت من أبي لأول مرة منذ سجن عمر أن يأتي معي للزيارة، وهو ما يعرضه دائما علي، وأرفضه، ذلك أني أكره أن أُدخله ذلك المكان وأخاف عليه من الإرهاق ، ولكن اليوم أطلبها منه، قلت له نصاً " محتاجة لدعمك ليا نفسياً لأني بجد مش قادرة "، فوافق كأنني حققت له أُمنية.

توليت أمر القيادة، من القاهرة إلى ميت غمر ،كما تعودت دائماً في كل زيارة، أترك سيارتي هناك، وأذهب مع أهل عمر في سيارة يستأجرونها إلى سجن جمصة .

وعندما وصلت إلى منزل عمر في ميت غمر ، صعدنا للأعلى، فهناك ضيفة صغيرة قد جاءت إلى الدنيا منذ أسبوعين، إنها " آن "، ابنة أخت عمر ،

طوال فترة حبس عمر وأخويه إبراهيم وأنس ، حُرموا ثلاثتهم من استقبال أبناء أخواتهم البنات ، " زين ، علي و أخيراً آن "، جاءوا لهذه الدنيا في ظل غياب أخوالهم الثلاث.

أُهنئ أروى على مولودتها الجميلة، وأعلم تماماً أن ملامحي باهتة، أعتذر لها وأقول: إنني لست على ما يرام علَها لا تشعر بالضيق مني، فتدعو لي، أن يكون الله في عوني، أحدث " آن " بلا كلمات، وأنا أتأملها، تُرى كيف تكون حياتك يا صغيرة ؟، كم أنت هشة و رقيقة ؟، ولدتُ مثلك منذ 27 عاماً، لا أعلم أو لا أفقه شيئاً، أبكي و أضحك لأتفه الأسباب، لكن انظري إلى حالي الآن، بلا شعور يا صغيرة، أراكي بعيني وألمسك بيدي وأحتويكي بين ذراعي ولا أشعر بأي شيء.

انتهى وقت التهنئة و انطلقنا في الطريق إلى سجن جمصة شديد الحراسة، حيث عمر و أخيه إبراهيم و معهم عبد المنعم الصديق الرابع، والمتهم أيضًا في قضيتهم،.. أو لنقل في تلك الأزمة، أما أنس فهو في قسم دكرنس بعيدًا عنهم، و على ذكر عبد المنعم أتذكر دائما توبيخ البعض لي أنني لا أذكره إعلامياً كما أذكر عمر ..

ولو فكروا قليلا لوجدوا أنني لا أذكر إخوة عمر بقدر ما أذكر عمر من الأساس، و لكن إذا سنحت الفرصة ذكرتهم جميعاً .

طوال الرحلة من ميت غمر إلى سجن جمصة و أنا زائغة العين، شاردة التفكير، في اللاشيء، صمت مطبق بداخلي ، لا أفكار، أستمع إليهم يتحدثون والدة عمر ووالده ووالدي، حديثهم يقطع علي صمتي، ثم تذكرت أن أتصل و أحدد موعداً مع الطبيبة النفسية، اللجوء إلى الطب النفسي للمرة الثالثة، حزن واكتئاب يُضيعاني مني و هذه المرة تحديداً دون غيرها أنا لا أعود كما كنت .

شاردة، مكاني المفضل السرير، لا أرغب في فعل أي شيء على الإطلاق، أستيقظ حتى أنام فجأة، و أظل نائمة هروباً من يوم طويل حتى أصاب بصداع قاتل فأستيقظ على غير إرادتي، عندما يتحدث إلي أبي أظل أُحدق فيه ولا أنطق بكلمة، آخذ وقتاً طويلاً لكي يخرج الكلام من فمي، لجام ما وضعه أحدهم على لساني، أو أنني نسيت الكلام .. حتى عملي من المنزل ، أظل جالسة أمام شاشة الكمبيوتر ولا أحرك ساكناً، يداي .. أين يداي؟، كيف أشعر أنني بلا إرادة بهذا الشكل؟!

ذعر .. ذعر، أختنق وبيدي، اتصل بالمركز و أحدد الموعد أخيراً،

أكمل رحلتي اللعينة، إلى ذلك المكان الموحش، لا أجد تعبيراً أصفه به .

وصلنا أخيراً إلى الملتقى والمنفى، نترك السيارة ، و نركب أخرى يسمونها " طفطف " الجرار المستخدم في عمليات رفع الرمل والطوب في البناء، يجر عربات أخرى نجلس فيها و ننقل حاجيات الزيارة من أكل وملبس، تنقلنا إلى بوابة السجن .. نقف في طابور مزدحم لكي ندخل من أول بوابة، ليست بوابة بل بابًا صغيرًا لا يمر منه سوى شخص واحد، نمر واحداً تلو الآخر، نضع أكياس الزيارة على جهاز إلكتروني ليكشف لهم ما نحمل، ثم نصل إلى قاعة الانتظار، يذهب والد عمر ليسجل الزيارة وننتظر في تلك القاعة إلى أن يشاء الله، فهناك لا قيمة للوقت، و لا معنى، لكنه أطول من المعتاد قاعة الانتظار كمكب النفايات، القمامة في كل مكان، شيء مثير للاشمئزاز، أختفي أنا وراء نظارتي الشمسية، أتأمل المكان، الناس، والوقت، وأسأل لم أنا هنا ؟ لم؟ ماذاسيحدث بعد ذلك ؟ ترى متى ننتهي من كل هذا ،الذي ومهما طال لن أفهمه؟! يصعب على عقلي الصغير فهمه، ماذا سيحدث عندما أرى عمر وأنا على تلك الحالة العجيبة ؟ أسأظل بلا شعور ؟، فلم جئت من الأساس ؟، آه من ذلك اللاشعور!

أخيراً ينادون على الزيارة و أخيراً ينتهي الانتظار في مكب النفايات.

نقف في طابورٍ آخر ندخل واحداً تلو الآخر، يأخذون البطاقات و جواز السفر، أحمل جواز سفري دائماً، والمدون فيه أنني زوجة عمر ، أخذوه و دخلت، أضع الأكياس للمرة الثانية على جهاز إلكتروني آخر، وأدخل إلى حجرة من ممر صغير إلى جانب الجهاز غرفة التفتيش الذاتي، أكرهها، وأرتعد خوفاً في كل مرة أن يحدث معي ما أسمع عنه من الآخريات، أكره الفكرة نفسها، أن تمرر إحداهن يدها على جسدي بأكمله بطريقة مثيرة للاشمئزاز، أفكر لحظتها في أجهزة الكشف اليدوية بدلاً من أيديهم، لا زلت أذكر أول مرة تفتيش ذاتي مررت بها هنا، مع أول لمسة لتلك السيدة فزعت و انتفضت إلى الوراء حتى أنها قالت لي " خايفة من ايه " لم أجب .. ألا ترى أن ما تفعله فيه من الإهانة و الاشمئزاز ما فيه، تعودت ..

جهاز آخر و ندخل للتفتيش الثالث لأكياس الزيارة، و هو الأسوأ على الإطلاق، تفتيش يدوي هذه المرة، يفتحون كل علب الأكل، كل الأكياس، يهرسون الطعام بأيديهم، بمعالق، بأعواد خشبية من الأرض، ليتأكدوا أننا لم نُهرِب شيئاً، ثم يأخذون ما أرادوا، و يمنعون بدون قواعد، إن أعجبه طعام ما، أخذ منه أو أخده كله،

وإن أعجبته إحدى قطع الملابس أخذها أيضا أمامنا، أو يمنعها و يأخذها و نحن في الزيارة، تعودنا..

ندخل صالة الزيارة أخيراً، ننتظر إلى أن ينتهي تفتيش كل الزائرين، يغلقون البوابات علينا، و يفتحون البوابة الأخرى، يدخل المحتجزون، جميعهم في لحظة تسمع طفلة و هي تجري " بابا .. بابا "، مع تصفيق حار من الأهالي، لا أفهمه حقيقةً ، و لم أصفق معهم ولا مرة، صفارات عالية، في كل مرة في تلك اللحظة تحديداً، كنت إما أقترب من بوابة الدخول أنتظر عمر، أو أنني أقف في مكان عال حتى أراه، وعندما يدخل أجري عليه، كطفلة، ولكن هذه المرة اختلفت، أنا سيدة بلا شعور اليوم، بلا لهفة، أجلس هنا وأنتظر .

ما الداعي للوقوف ، أو التزاحم، سيأتي، أدرك في هذه اللحظة أنني أفقد الكثير أو أنني فقدت وكان ما كان .

ينتظره أبواه على مقربة من بوابة الدخول، سأشاهد دخوله و أعرف بوصوله وعندها أقوم من مكاني، يدخل، تحتضنه والدته ، والده، يتسمر في مكانه وأنا أتسمر في مقعدي، ينظر إلى والده ويتحدث، يبحث بعينيه، فأقولها بصوت عالي " بيدور علي " بدون ابتسامة أو فرحة كأنني أقرأ خبراً في نشرة الأخبار، إلا أني لم أقم ، هممت ولم أفعل، حتى رآني .

جاءني مهرولاً، أخذه أبي بين أحضانه، و لا أزال في مقعدي، تُراني فقدت القدرة على الوقوف، لا سأقف له عندما ينتهي من أبي، انتهى، التفت لي، ينظر .. يحدق .. يقف .. ولم أقم، أيتها الكائنة اللعينة.. قفي، لا أقف، أحدث نفسي، أحدق في عينيه .. عمر، لازلت أحدق ، وهو ينتظرني أن أقوم ،لا أقوم، فيقول " مالك يا بت فيكي ايه ؟ " ، لا أجيب، فيقرر أن يحتضنني وأنا في مكاني جالسة ، كم أكرهني !

لم أشعر بأي شيء بين ذراعيه، أنا بلا شعور، كيف؟ لم؟ ، لا أعرف، كنت أنظر لسقف صالة الزيارة و لم أغمض عيني كما تعودت في حضنه .

أتسمر ويكرر قوله " فيكي ايه ؟ " ، فأقول " متاخدش في بالك أنا مش كويسة بقالي فترة ومعرفش السبب ومبحسش ، حاول متركزش معايا كتير ، عشان متتعبش وأنا حجزت معاد مع الدكتورة، جايز يبقى في حل .." ، فيصمت و يحتضني مرة أخرى بشكل أقوى ، فيوشك أن يحرك في بعض مشاعر الألم، فأبتعد، لن أبكي، أنا السيدة بلا شعور اليوم .

نتحدث طويلاً، اعتدنا أن نمشي في أروقة صالة الزيارة بين الزائرين وتعودنا على نظراتهم، أسمع عمر ولا أسمعه، كأنني في عالم آخر، أختلس النظر إليه في بعض اللحظات، هو عمر، فعلا ..أنا مع عمر .. عمر !

زوجي، سيخرج ونتم الزفاف .. لم؟! .. عمر!

أتذكر تلك العينين، لطالما عشقتهما .. تلك الشفاه .. ابتسامتها كانت تنير الدنيا، كيف نسيت ؟، أنسيت حقا ؟!

شعره طويل كسابق عهده قبل أن يُسجن، قبل أن نفترق، أحب شعره الطويل، أو أنني لا أحبه، لا لا .. لن أفكر ، سأصغي لكلماته، يحتضنني ونحن نمشي، كأننا نمشي معًا على شاطىء البحر !

لا أشعر بيده، لا أشعر سوى بثقلها على كتفي، لا أشعر بذلك الاحتواء الذي كنت أشعر به في الماضي.

نسيت الشعور نفسه، نسيت كل المشاعر كأنها لم تكن، أتحدث عنها، أصفها الآن، وصفاً خالياً من القدرة على استرجاع الشعور ذاته، المشكلة كبيرة .. كبيرة .. أنا أضيع مني !

ينتهي حديثنا، بمحاولاته العديدة لتغيير حالتي، يستغرب من فقداني الكثير من وزني، زيارة لعينة، أنا شخصٌ لعين .. سأعذبه بحالتي .. لم أفعل به ذلك .. أما هو فصنع لي في محبسه هدية وجاء بطعام لكي نأكل معًا، أفتقد شعوري تجاهه، ولا أجده، شعوري بكل نظرة .. كلمة .. أو فعل منه .. هو عمر .. أراه ملاكاً في وسط الناس بثوبه الأبيض، وجهه منير بشكل غريب، تعلو وجهه دائما ابتسامة، من المفترض أنني أحبها، هل هناك من أحد يعيد كهرباء الشعور إلى مكانها ؟!

أعيش في عالم موازٍ .. صامت .. خلقته أنا في الأغلب بدون وعي، غرقت فيه من كثرة الألم والاحتياج، أريد أن أخرج، لا أعرف .. صدقا لا أعرف، كرهت الشكوى، وخفت أن يكرهني و يمل مني أي من أصدقائي فقررت الصمت و اعتزلتهم إلا واحدة.

انتهت الزيارة .. رن الجرس .. نظر لي بقوة .. بحزن .. بضيق .. بضعف وكل المشاعر اجتمعت في عينيه في تلك اللحظة، قال كل شيء في صمت و هو يحدق بي، أريد أن أخرج .. أخاف عليكي .. أنا السبب فيما أنتِ فيه .. أريد أن أكون بجانبك .. لا أستطيع .. سامحيني .. أحبك جدا لو تعلمين .. ولم ينطق .. يحدق و عيناه تتحدث .

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل