المحتوى الرئيسى

"الجَرَّاحُ فِي أَيَّامِ الحُبِّ"

09/02 15:46

تِلْكَ النُّدُوبُ وَالجُرُوحُ التِي عَلتْ قُلُوبَنَا، تِلْكَ الأَحْزَانُ الَّتِي اِنْتَشَرَتْ فِي دَاخِلِنَا، تِلْكَ الهُمُومُ الَّتِي غَمَرَتْ أَيَّامَنَا حَتَّى أَصْبَحَ الكُلُّ حَزِيناً، الكُلُّ جَرِيحاً، الكُلُّ مَوْجُوعاً.. مَاذَا حَدَثَ لِلمُحِبِّينَ؟!!. هَذَا هُوَ السُّؤَالُ المَنْطِقِيّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْنَا الآنَ أَنْ نَسْأَلَهُ لِأَنْفُسِنَا قَبْلَ أَيِّ إِنْسَانٍ آخَرَ. كَيْفَ لِي أَنْ أُحِبَّ فَتَغْمُرنِي الأَحْزَانُ وَالهُمُومُ؟!، كَيْفَ لِي أَنْ أُحِبَّ فَأَجْدِنِي فِي عَاصِفَةٍ مِنْ المُشْكِلَاتِ وَالأَحْزَانِ؟!.. أَيْنَ العَيْبُ؟، هَلْ العَيْبُ فِي الحُبِّ أُم فِينَا؟! وَلَكِنَّنَا سُرْعَانَ مَا نَجدنَا جَمِيعًا نَتَذَكَّرُ رَائِعَة أَمْ كُلْثُوم "سِيرة الحُب" وَهِيَ تَشدو أَنَّ "العَيْبَ فِيكُمْ يَا فِي حبابيكم"..

لِذَا مَا هَذَا الحُبُّ الَّذِي لَمْ نَرَ مِنْهُ إِلَّا الجُرْح وَالأَحْزَان، كَيْفَ يَأْتِي إِلَيْنَا ذَلِكَ الحُبُّ بِكُلِّ هَذِهِ الآلَامِ وَالهُمُومِ.. لطالما أَخْرَجَتْ لنَا السِّينَمَا الحُبّ فِي صُورَةِ السَّعَادَةِ الرَّائِعَة وَتِلْكَ الأَيَّامَ الجَمِيلَةَ الرَّقِيقَةَ الَّتِي لَا تَشُوبُهَا أَيُّ نَظْرَة حزن أَوْ ألم أَوْ جُرح، حَتَّى اِرْتَسَمَتْ فِي عُقُولنَا صورة ذَلِكَ الحُبّ الاِسْتِهْلَاكِيّ أَوْ قل إن شئت الحُبّ الخَيَالِيّ.

يَتَحَدَّثُ المُحَلِّلُ النَّفْسِيُّ الشَّهِير "إريك فروْم" عَنْ الحُبِّ فِي كِتَابِهِ "فَنُّ الحُبِّ" فنَجْدُ أَنَّنَا لَا نَعِي أَيّ شَيْء عَنْ الحُبِّ، حِينَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ الحُبِّ نَجِدُ أَنْفُسَنَا تَتَطَلَّعُ لِلأَشْخَاصِ أوَلًا، أَوْ أَنَّنَا جَمِيعًا مُحِبِّونَ رَائِعِونَ وَلَكِنَّ الأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بِإِيجَادِ الشَّخْصِ المُنَاسِب وَذَلِكَ خَطَأ فَادِحٌ..

الحُبُّ لَا عَلَاقَة لَهُ بِالشَّخْصِ الصَّحِيحِ أَوْ الشَّخْص المُنَاسِب، إِنَّمَا الحُبُّ يَتَعَلَّقُ بِالمُحِبِّ أَوَّلَا، يَتَعَلَّقُ بِكَ أَنْتَ قبل أي شيء، وَمَا هِيَ قُدْرَتُكَ عَلَى الحُبّ وَمَا هُوَ اِسْتِعْدَادُكَ لِلحُبِّ.. الحُبُّ أَنْ تَبْدَأَ الأَوَّلَ بحُبّ نَفْسِكَ التِي بَيْنَ جَنْبِكَ حُباً صَحِيحًا، مَنْ لَا يَسْتَشْعِرُ السَّعَادَةَ مَعَ نَفْسه لَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَجِدَهَا مَعَ أَيِّ إِنْسَانٍ آخَرَ.. الحُبُّ الَّذِي هُوَ عَطَاءٌ بِلَا أَيّ شَيْء، عَطَاءٌ غَيْرُ مَشْرُوطٍ، لِذَا مِنْ الخَطَأ اِسْتِخْدَامُ ذَلِكَ التَّعْبِيرِ "لَقَدْ وَقَع فِي الحُبِّ" كَيْفَ لنَا أَنْ نَقَعَ أَصْلًا؟!! كَيْفَ يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الحَالَةِ بِالسُّقُوطِ.. إِنَّمَا يَحْيَا الإِنْسَانُ بِالحُبِّ وَبِهِ يَقِفُ وَبِهِ يُحَارِبُ الأَحْزَانَ وَالهُمُومَ حَتَّى يَحْيَا مُحِبًّا.. وَكَيْفَ تَحْيَا مُحِبًّا؟! مِنْ أَجْلِ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ لِنَا أَيّ شَيْء، مِنْ أَجْلِ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَحْمِلُونَ لِنَا أَيْ نَفْع، مِنْ أَجْلِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ كَانَ الحُبُّ وَلَا يَزَالُ، حِينَمَا تَجِدُ فِي قَلْبِكَ الحُبَّ تُجَاهَ أُولَئِكَ البَشَرِ تَبْدَأُ أَنْ تَكُونَ مُحِبًّا..

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ مُحَمَّد سَيِّد المُحِبِّينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه" وَمِنْ هُنَا كَانَ الحُبُّ هُوَ طَرِيقُ الإِيمَانِ، طَرِيقُ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَفِي الحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ اِمْرَأَةً دَخَلَتْ الجَنَّةُ فِي شُرْبِهِ مَاءً لِكَلْبٍ.. الحُبُّ هُوَ العَطَاءُ دُونَ اِنْتِظَارِ شَيْءٍ فِي المُقَابِلِ، حِينَمَا يُعْطَي الإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهُ وَمِنْ دِقَّاتِ قَلْبِهِ وَمِنْ دُمُوعِهِ وَمِنْ ضِحْكَاتِهِ، هَكَذَا يُقَدَّمُ الحُبُّ الصَّحِيح.. الحُبُّ هُوَ الرِّعَايَةُ وَالاِهْتِمَامُ وَالمَسْؤُولِيَّةُ، وَلَا أَتَحَدَّثُ هُنَا عَنْ الأُمُورِ المَادِّيَّةِ فَقَطْ وَإِنَّمَا عَنْ الاِهْتِمَامِ النَّفْسِيِّ وَالعَاطِفِيِّ قَبْلَ أَيْ اِهْتِمَام مَادِّي.

الحُبُّ هُوَ الاِحْتِرَامُ وَالاِحْتِرَامُ هُوَ أَنْ تُسَاعِدَ الشَّخْصَ عَلَى الحَيَاةِ كَمَا هُوَ دُونَ أَنْ تُحَاوِلَ أَنْ تَضعه فِي قَالِبٍ مَا، أَوْ فِي شَكْلٍ آخَرَ يُنَافِي طَبِيعَتَهُ.. إِنَّ عَمَلِيَّةَ الحُبِّ تَبْدَأُ بِالإِعْجَابِ وَالرَّغْبَةِ ثُمَّ التَّعَلُّقُ وَهُنَا تَلْعَبُ الهرْمُونَاتُ الجَسَدِيَّةُ مِنْ الدوبامين وَالسيروتونين وَالأدرنالين بَالغَ الأَثَر فِي اِنْطِلَاقِ دقَّاتِ القَلْبِ نَحْوَ المَحْبُوب، وَإِذَا لَمْ يُصَاحِبْ ذَلِكَ الشُّعُور العَطَاء وَالاِهْتِمَام وَالرِّعَايَة

تَقُل نِسْبَةُ هَذِهِ الهُرْمُونَاتِ مَعَ مُرُورِ الوَقْتِ وَالأَيَّام وَتَبْدَأُ فِي الاِنْدِثَارِ حَتَّى تَبْدَأ الخِلَافَاتُ فِي الظُّهُورِ وَالاِنْتِشَارِ..

يرْجِعُ السَّبَبُ إِلَى اِنْتِشَارَ تِلْكَ النُّدُوبِ وَالجُرُوحِ الَّتِي عَلت القُلُوبَ إِلَى غِيَاب الحُبِّ الحَقِيقِيِّ، إِلَى غِيَاب فَنِّ الحُبِّ.

أَتَدْرِي مَتى تُلْتَأمُ تِلْكَ الجراح وَالنُّدُوبُ؟ لا تلتئم إلا حينما تَغْدُو فِي حُبٍّ حَقِيقِيٍّ، ذَلِكَ العَطَاءُ غَيْر المَشْرُوط ذَلِكَ السَّكَن وَالدّفء، حِينَمَا يَنْبِضُ قَلْبُكَ بِمَنْ تِحِبّ حَتَّى يُصْبِح هُوَ جُلٌّ مَا تُحَبُّ، حِينَمَا يُتَكَلَّمُ تُصْبِحُ كُلُّ قِطْعَةٍ فِي جَسَدِكَ أُذْناً صَاغِيَة لما يَقُولُ، حِينَمَا يُسَكتُ يَتَحَوَّلُ كُلُّ جَسدَك إِلَى لِسَان الغَزلِ فِيهِ وَفِي حُبِّهِ، حِينَمَا يَمْشِي وَوَدت لَوْ أَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْتَهِي، حِينَمَا يَنَامُ تَظَلُّ جَالِسًا بِجِوَارِهِ تعدُّ كُلَّ الأَنْفَاسِ حَتَّى يَصْحُو مِنْ نَوْمِهِ.

كُلُّ تِلْكَ الصُّوَرِ البلاغية الجَمِيلَة الرَّقِيقَة، لَا تَغْدُو كَونهَا كَلِمَات وَتُصْبِح حَقِيقَةً حِينَمَا تَتَحَوَّلُ إِلَى فعل مِنْ الإِخْلَاصِ وَالمسؤولية وَالاِحْتِرَام وَالتَّقْدِير.

كَانَ لِي صَدِيقٌ نَعْمَلُ سَوِيًّا وَفِي يَوْمٍ تَأَخَّرْنَا فِي العَمَلِ لَيْلًا عَلَى غَيْر العَادَةِ، طَلَبَ مِنِّي أَنْ أَوْصَلَهُ البَيْت وَكَانَ فِي عَجَلَةٍ شديدة مِنْ أَمْره ، سَأَلَتْهُ لِمَاذَا هَذِهِ العَجَلَةُ قَالَ: تَرَكْت زَوْجَتِي مُنْذُ خُرُوجِي فِي الصَّبَاحِ وَلَا أُحِب أَنْ تَكُونَ وَحِيدَةً كُلّ هَذَا الوَقْتِ.. أَدْهَشَتْنِي تِلْكَ الكَلِمَاتُ، هُمْا مُتَزَوِّجان مُنْذُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا وَهُوَ مازَالٍ يُحِبُّ الجُلُوسَ عَلَى المَقْهَى وَأَحَادِيث الشَّبَابِ، مَاذَا حَدَثَ لَهُ؟!. الإِجَابَةُ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ هُوَ أَحَبّ بِصِدْق، أَحَبّ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ.. وَفِي نِهَايَةِ الأَمْرِ نَتَعَلَّمُ الحُبَّ قَبْلَ أَنْ نُحِبَّ، كِي نَحْفَظُ مَا تُبْقِي مِنْ قُلُوبِنَا وَنَحيَا جاهدين بَعِيدَيْنِ كُلّ البُعْدِ عَنْ الجِرَاحِ وَالأَلَمِ.

إن أَسوأ مَا قَدْ يَعِيشُهُ الإِنْسَانُ هُوَ أَنْ يَشْعُرَ أَنَّهُ قَدْ اِنْتَهَى أَوْ أَنَّ مَشَاعِرَهُ اِنْتَهَتْ، وَهَلْ يَحْدُثُ ذلك؟، نَعَمْ يَحْدُثُ.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل