المحتوى الرئيسى

لم يكن أول مَن كتب الرواية، لكنها تحققت على يديه

09/02 00:59

يقال في الأدب، إن القصة القصيرة خرجت من معطف «تشيخوف»، هل يمكن القول إن الرواية العربية خرجت من «جلابية» نجيب محفوظ؟ وما الذي تبقى من نجيب محفوظ اليوم؟ سؤال طرحناه على عدد من الروائيين، في الذكرى العاشرة لغياب نجيب محفوظ، وقد شارك في الاستطلاع هذا زهرة مروة (لبنان) وسامر محمد اسماعيل (دمشق) ومحمد شعير (مصر)

أحسب أننا نمعن في نسيان روائيين آخرين، منهم يوسف إدريس مثلاً، المعاصر لمحفوظ، والذي كان أدبه يتميّز بحساسية متجاوزة للسرد النمطي التقليدي.

أقصد أنه أنجز مشروعه كاملاً فبدا بذلك كأنه أنجز أدب مصر كلّه. ونحن من قرأنا كتبه اشتركنا في اقامة ذلك التماثل بين الحياة المصرية وبين ما كتبه محفوظ لها او عليها. أي أننا صرنا نقول إنه كتب مصر كلها. فيما هو يصوّر حياة شخصياته، وهي كثيرة كثيرة على أي حال. لا أعرف إن كان محفوظ حاضراً بين الأجيال الجديدة مثلما كان حاضراً في أيامنا. أخشى أن الزمن الذي جرى طيّ صفحته، شمل كل شيء، وأدب نجيب محفوظ من ضمنه. لقد تُرك محفوظ هناك في ما كانت عليه «الجماليّة»، وزقاق المدقّ، والقاهرة عموماً، في الثلاثينيات والأربعينيات.

ما زلنا نحتفل بنجيب محفوظ، بل واننا ندعو الأجيال الجديدة الى مشاركتنا الاحتفال. لكن هل ما زال أدبه حاضراً حضور اسمه؟ أو هل يتجاوز الاحتفال به، جائزة نوبل التي جعلناها، كأن غير مصدقين، ملازمة باسمه على الدوام؟ وهل كان الاحتفال به سيستمر بيننا لو لم يحظَ، بهذه الجائزة؟

في الحقيقة لا أعرف إذا كان القسم الأول من المقولة صحيحاً، لأن الكاتب الفرنسي موباسان ملأ الدنيا قصصاً قصيرة، وكذلك فلوبير كتب قصصاً رائعة. أما بالنسبة للرواية العربية، فهي خرجت من هواء العالم، وقد ازدهرت في العالم العربي في حقبة متأخرة متناسبة مع دخول بلداننا الى أشكال من الحداثة، وانا أعجز عن التفسير ولا ارغب في بذل جهد كي أعرف، تكفيني متعة كتابة الرواية.

بلا شك في أن الرواية العربية في بعض أنماطها، طبعاً تأثرت بالروائي الكبير نجيب محفوظ، لكن أبواب التأثير هي مشرّعة في جميع الاتجاهات الثقافية مع إتقان اللغات الأجنبية ونمو حركة الترجمة.

لأنني أجلّه فأنا لا أضمّه

في ذكرى رحيله الأولى، كتبت – هتفتُ: لأنني أُجلّه فأنا لا أضمّه. ولم أفتأ أردد (الشعار) في كل ذكرى له: رحيله، أو ظفر نوبل به، أو ميلاده، أو المساهمة في ملفٍّ ما عنه، أو العودة إلى رواية من رواياته، وتلك هي الذكرى الأبقى، وإن ندرت أو تناءت، ليس فقط لأن ما يكتبه أبناء وأحفاد نجيب محفوظ لا يكاد يفسح لالتقاط الأنفاس ـ وأنا مشغول جداً بإنتاج هؤلاء ـ بل لأن في بعض ما كتبه ما لا يعنيني، بل وأثقل عليّ منذ قراءته الأولى له، وبخاصة في بداياته في الرواية التاريخية. وعدا عن ذلك فثمة ما لا يُحصى وما لا قدرة لك عليه من الإبداعات الخالدة المخلّدة التي تناديك إليها كل حين، فكيف إن كان لديك أيضاً من المشروعات الروائية ما يضيق به ويقصر عنه العمر والطاقة!

من المحزن أن كثيرين وكثيرات ممن تلوا نجيب محفوظ لا يعرفون إبداعاته. ولا يخلو هذا الجهل من التعالي، ومن الادعاء بالتجاوز. فإذا كان من المؤكّد المبهج أن فيمن يلون دوماً، من يقفون على أكتاف من سبقوا، فإن ذلك لا يعني التجاوز المجاني، فكيف بالاستعلاء الفارغ، بل يعني أنني أتمثّل ما أمكنني من إبداعات من سلفوا، وبغير هذا التمثل يظل التجاوز ادعاءً وكسلاً ونرجسيةً.

نجيب محفوظ الأستاذ في اللغة الروائية وفي الشخصية الروائية وفي الحارة وفي الزقاق وفي العوامة وفي فلسفة الرواية.... سلامات يا عمّ نجيب.

ﻻ أدري من أيّ معطف خرجت القصة القصيرة، أو الرواية العربية. هل من حاجة لمعطف حقاً؟ ﻻ أعتقد ذلك قط.

بالنسبة إلى تجربتي الشخصية في الرواية، ﻻ صلة حقاً بين عالمي الروائي وعالم نجيب محفوظ، مع كل تقديري له. نجيب محفوظ باختصار، هو في عالم اللوحة المجتمعية والتاريخية الكبيرة، الفسيحة، شيء مثل «الكوميديا البشرية» عند بلزاك، مع ما هناك من تمايز بينهما. أما أنا فأجول في عالم الحياة الداخلية.

وقد ذكرتُ من قبل أن الحياة الداخلية ليست بالفسحة الضيّقة، كما يتخيّل البعض، بل هي الكون برمته. وحين تنطفئ الحياة الداخلية، ينطفئ الكون.

تكمن أهمية نجيب محفوظ في تأصيل المكان بوصفه رافعة أساسية في العمارة السردية. المكان الذي سوف تتناسل من دروبه المتعددة شخصيات تركت بصمتها في ذاكرة التخييل العربي عموماً، فلكلٍ منّا كقراء، شخصية حفرت عميقاً في وجدانه. في المقابل لا يمكننا التسليم بأنه أيقونة روائية لا يمكن المساس بها، فهو محطة قطار لا بد من التوقف الإجباري عندها، قبل أن تفترق السكك وتتباعد الجهات. كان الأسلاف ينصحون الشعراء الجدد بحفظ ألف بيت من الشعر ثم نسيانها. الآن بإمكاننا استعارة هذه النصيحة لمصلحة السرد: اقرأ نجيب محفوظ ثم انس رواياته. روائي اليوم لفرط تشظي حياته سيجد مسارب سردية لا تحصى، وسيكتفي في حال اشتبك مع نصوص هذا الروائي في محطةٍ ما، برفع يديه محيياً: سلام يا عم نجيب، ثم يكمل طريقه وحيداً.

لا شكّ في أنّ حركة الرواية العربية كانت بطيئة جداً في بدايتها. وإذا عدنا إلى تاريخها نجد أنها تأخرت كثيراً عن غيرها من الفنون الإبداعية، وظلّت فترة طويلة قاصرة أمام سطوة الشعر الذي وصم ثقافتنا العربية عقوداً طويلة. ولم يبزغ نجم الرواية في مجتمعاتنا «الشعرية» إلاّ مع أسماء ظهرت بين مطلع القرن العشرين وأواسطه، أبرزها طه حسين وتوفيق الحكيم وعبد الحق فاضل وتوفيق عواد.

لكنّ نجيب محفوظ هو الروائي الذي بدأ في ثلاثينيات القرن العشرين واستمرّ حتى بداية القرن الواحد والعشرين، ليرسم بأعماله الكثيرة أطول مسار للرواية العربية وأكثرها تأثيراً. فهو انطلق مع الرواية التاريخية والرمزية ليكتب من ثمّ الرواية النفسية والرواية الواقعية الاجتماعية والفانتازيا، حتى كاد يُجرّب كلّ الأنماط الروائية في رواياته. ماذا بقي من محفوظ؟ بقيت أعماله التي أسّست الرواية الحديثة والتي أنتجت بدورها رواية ما بعد حداثية

تمرّد كتّابها على «أبيهم» الروحي وخرجوا من جلبابه ليكتبوا بلغتهم (هم) روايات جديدة، مع يقينهم بأنّهم جميعاً أبناء نجيب محفوظ، روائياً.

أظن أن ثمة ما يعيد بث الروح في نصوص محفوظ، شئنا أم أبينا، مع كل قراءة جديدة، ويمكنني الزعم مطمئناً أن روايات محفوظ أشبه بمدينة أدبية تمتلئ بلغة لها خصوصيتها، وشخصيات فريدة برغم مرجعيتها، إلا ما ندر، للحارة الشعبية المصرية جسدت خارطة للتغيرات الاجتماعية في مصر على مدى القرن الماضي، أنماط من البشر تبدو كأنها منتزعة من الواقع لكن كلاً منها يمثل رمزاً عميقاً لقيمة أو فكرة أو فلسفة أو نمط تفكير، قابل لإعادة التأويل.

مدرسة الأدب الفلسفي إن جاز التعبير في زي القصة الواقعية المشوب بنزعة صوفية لا تخطئها عين، تقديري أن محفوظ رغم كل ذلك يبقى منه الكثير ليس أقله إعادة اكتشاف نص من نصوصه مؤخراً مثل «أفراح القبة»، ما يجعل حدسي بأن أعماله ستعاد قراءتها وفق آليات نقدية جديدة بما قد يشكل مدرسة خاصة في نقد أعماله. وهو بهذا كلاسيكي كبير، بالمعنى الإيجابي.

أعتقد أن الرواية العربية لا تزال حتى اليوم مدينة للرواية الغربية. هذا لا ينفي أهمية مرحلة نجيب محفوظ، ولكن محفوظ المبدع، لم يصنع مبدعين، بل يمكن القول إن الأسماء العربية التي تميّزت في الرواية، هي تلك التي نهلت من التجربة الروائية في الضفة الأخرى. على سبيل المثال، أظن أن الواقعية السحرية، بدءاً من ماركيز، قد بهرت الرواية العربية، وكذلك يمكن سحب الأمثلة على التجارب الغربية الأخرى. أما عما بقي من محفوظ اليوم، فهو محفوظ ذاته، بما يتناسب مع مرحلته، إذ إن الرواية تتطوّر بسرعة كبيرة، والتجريبية الواسعة التي تتمتع بها تجعلها اليوم خارج الأبوة وقواعد الطاعة والانتماء.

ربما في الليلة التي سبقت حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل كان جيل الستينيات المهيمن على الكتابة في مصر، في تلك اللحظة يقول بقوة وغضب: متى يخرج هذا الرجل من المشهد؟ متى يموت هذا الرجل الذي يقف حجر عثرة في طريق الحداثة؟ كتابة استاتيكية واقعية. كانوا يقولون ويشدّون شواربهم للأمام.

أنقذت الجائزة أدب نجيب محفوظ وأنقذته هو شخصياً وجعلت منه كاتباً مستعاداً وكاتباً حاضراً. قبلها كانت كتابته ميتة مميتة وبعدها صار ولياً يُحج إليه في مقامه حياً. كان يوسف أدريس حاضراً في حياته بقوة، لكن لو نظرنا الآن سنجد أن حضور نصوصه قد خفت مع الاعتراف بقيمته، لكن نجيب حاضر وساطع وجالس على مقعده بعد رحيله.

بالطبع ليس نجيب محفوظ أول من كتب الرواية العربية، لكنها لم تعرف لحظة تحققها إلا على يديه، ويمكن وصف هذه اللحظة بلحظة ولادة الرواية العربية الحقيقية، اللحظة التي عثرت فيها على أبيها، ولحظة نجيب محفوظ شخصياً. (روائي مصري)

يقال في الأدب، إن القصة القصيرة خرجت من معطف «تشيخوف»، هل يمكن القول إن الرواية العربية خرجت من «جلابية» نجيب محفوظ؟ وما الذي تبقى من نجيب محفوظ اليوم؟ سؤال طرحناه على عدد من الروائيين، في الذكرى العاشرة لغياب نجيب محفوظ، وقد شارك في الاستطلاع هذا زهرة مروة (لبنان) وسامر محمد اسماعيل (دمشق) ومحمد شعير (مصر)

أحسب أننا نمعن في نسيان روائيين آخرين، منهم يوسف إدريس مثلاً، المعاصر لمحفوظ، والذي كان أدبه يتميّز بحساسية متجاوزة للسرد النمطي التقليدي.

أقصد أنه أنجز مشروعه كاملاً فبدا بذلك كأنه أنجز أدب مصر كلّه. ونحن من قرأنا كتبه اشتركنا في اقامة ذلك التماثل بين الحياة المصرية وبين ما كتبه محفوظ لها او عليها. أي أننا صرنا نقول إنه كتب مصر كلها. فيما هو يصوّر حياة شخصياته، وهي كثيرة كثيرة على أي حال. لا أعرف إن كان محفوظ حاضراً بين الأجيال الجديدة مثلما كان حاضراً في أيامنا. أخشى أن الزمن الذي جرى طيّ صفحته، شمل كل شيء، وأدب نجيب محفوظ من ضمنه. لقد تُرك محفوظ هناك في ما كانت عليه «الجماليّة»، وزقاق المدقّ، والقاهرة عموماً، في الثلاثينيات والأربعينيات.ص

ما زلنا نحتفل بنجيب محفوظ، بل واننا ندعو الأجيال الجديدة الى مشاركتنا الاحتفال. لكن هل ما زال أدبه حاضراً حضور اسمه؟ أو هل يتجاوز الاحتفال به، جائزة نوبل التي جعلناها، كأن غير مصدقين، ملازمة باسمه على الدوام؟ وهل كان الاحتفال به سيستمر بيننا لو لم يحظَ، بهذه الجائزة؟

في الحقيقة لا أعرف إذا كان القسم الأول من المقولة صحيحاً، لأن الكاتب الفرنسي موباسان ملأ الدنيا قصصاً قصيرة، وكذلك فلوبير كتب قصصاً رائعة. أما بالنسبة للرواية العربية، فهي خرجت من هواء العالم، وقد ازدهرت في العالم العربي في حقبة متأخرة متناسبة مع دخول بلداننا الى أشكال من الحداثة، وانا أعجز عن التفسير ولا ارغب في بذل جهد كي أعرف، تكفيني متعة كتابة الرواية.

بلا شك في أن الرواية العربية في بعض أنماطها، طبعاً تأثرت بالروائي الكبير نجيب محفوظ، لكن أبواب التأثير هي مشرّعة في جميع الاتجاهات الثقافية مع إتقان اللغات الأجنبية ونمو حركة الترجمة.

لأنني أجلّه فأنا لا أضمّه

في ذكرى رحيله الأولى، كتبت – هتفتُ: لأنني أُجلّه فأنا لا أضمّه. ولم أفتأ أردد (الشعار) في كل ذكرى له: رحيله، أو ظفر نوبل به، أو ميلاده، أو المساهمة في ملفٍّ ما عنه، أو العودة إلى رواية من رواياته، وتلك هي الذكرى الأبقى، وإن ندرت أو تناءت، ليس فقط لأن ما يكتبه أبناء وأحفاد نجيب محفوظ لا يكاد يفسح لالتقاط الأنفاس – وأنا مشغول جداً بإنتاج هؤلاء – بل لأن في بعض ما كتبه ما لا يعنيني، بل وأثقل عليّ منذ قراءته الأولى له، وبخاصة في بداياته في الرواية التاريخية. وعدا عن ذلك فثمة ما لا يُحصى وما لا قدرة لك عليه من الإبداعات الخالدة المخلّدة التي تناديك إليها كل حين، فكيف إن كان لديك أيضاً من المشروعات الروائية ما يضيق به ويقصر عنه العمر والطاقة!

من المحزن أن كثيرين وكثيرات ممن تلوا نجيب محفوظ لا يعرفون إبداعاته. ولا يخلو هذا الجهل من التعالي، ومن الادعاء بالتجاوز. فإذا كان من المؤكّد المبهج أن فيمن يلون دوماً، من يقفون على أكتاف من سبقوا، فإن ذلك لا يعني التجاوز المجاني، فكيف بالاستعلاء الفارغ، بل يعني أنني أتمثّل ما أمكنني من إبداعات من سلفوا، وبغير هذا التمثل يظل التجاوز ادعاءً وكسلاً ونرجسيةً.

نجيب محفوظ الأستاذ في اللغة الروائية وفي الشخصية الروائية وفي الحارة وفي الزقاق وفي العوامة وفي فلسفة الرواية.... سلامات يا عمّ نجيب.

ربما في الليلة التي سبقت حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل كان جيل الستينيات المهيمن على الكتابة في مصر، في تلك اللحظة يقول بقوة وغضب: متى يخرج هذا الرجل من المشهد؟ متى يموت هذا الرجل الذي يقف حجر عثرة في طريق الحداثة؟ كتابة استاتيكية واقعية. كانوا يقولون ويشدّون شواربهم للأمام.

أنقذت الجائزة أدب نجيب محفوظ وأنقذته هو شخصياً وجعلت منه كاتباً مستعاداً وكاتباً حاضراً. قبلها كانت كتابته ميتة مميتة وبعدها صار ولياً يُحج إليه في مقامه حياً. كان يوسف أدريس حاضراً في حياته بقوة، لكن لو نظرنا الآن سنجد أن حضور نصوصه قد خفت مع الاعتراف بقيمته، لكن نجيب حاضر وساطع وجالس على مقعده بعد رحيله.

بالطبع ليس نجيب محفوظ أول من كتب الرواية العربية، لكنها لم تعرف لحظة تحققها إلا على يديه، ويمكن وصف هذه اللحظة بلحظة ولادة الرواية العربية الحقيقية، اللحظة التي عثرت فيها على أبيها، ولحظة نجيب محفوظ شخصياً.

ﻻ أدري من أيّ معطف خرجت القصة القصيرة، أو الرواية العربية. هل من حاجة لمعطف حقاً؟ ﻻ أعتقد ذلك قط.

بالنسبة إلى تجربتي الشخصية في الرواية، ﻻ صلة حقاً بين عالمي الروائي وعالم نجيب محفوظ، مع كل تقديري له. نجيب محفوظ باختصار، هو في عالم اللوحة المجتمعية والتاريخية الكبيرة، الفسيحة، شيء مثل «الكوميديا البشرية» عند بلزاك، مع ما هناك من تمايز بينهما. أما أنا فأجول في عالم الحياة الداخلية.

وقد ذكرتُ من قبل أن الحياة الداخلية ليست بالفسحة الضيّقة، كما يتخيّل البعض، بل هي الكون برمته. وحين تنطفئ الحياة الداخلية، ينطفئ الكون.

تكمن أهمية نجيب محفوظ في تأصيل المكان بوصفه رافعة أساسية في العمارة السردية. المكان الذي سوف تتناسل من دروبه المتعددة شخصيات تركت بصمتها في ذاكرة التخييل العربي عموماً، فلكلٍ منّا كقراء، شخصية حفرت عميقاً في وجدانه. في المقابل لا يمكننا التسليم بأنه أيقونة روائية لا يمكن المساس بها، فهو محطة قطار لا بد من التوقف الإجباري عندها، قبل أن تفترق السكك وتتباعد الجهات. كان الأسلاف ينصحون الشعراء الجدد بحفظ ألف بيت من الشعر ثم نسيانها. الآن بإمكاننا استعارة هذه النصيحة لمصلحة السرد: اقرأ نجيب محفوظ ثم انس رواياته. روائي اليوم لفرط تشظي حياته سيجد مسارب سردية لا تحصى، وسيكتفي في حال اشتبك مع نصوص هذا الروائي في محطةٍ ما، برفع يديه محيياً: سلام يا عم نجيب، ثم يكمل طريقه وحيداً.

أعتقد أن الرواية العربية لا تزال حتى اليوم مدينة للرواية الغربية. هذا لا ينفي أهمية مرحلة نجيب محفوظ، ولكن محفوظ المبدع، لم يصنع مبدعين، بل يمكن القول إن الأسماء العربية التي تميّزت في الرواية، هي تلك التي نهلت من التجربة الروائية في الضفة الأخرى. على سبيل المثال، أظن أن الواقعية السحرية، بدءاً من ماركيز، قد بهرت الرواية العربية، وكذلك يمكن سحب الأمثلة على التجارب الغربية الأخرى. أما عما بقي من محفوظ اليوم، فهو محفوظ ذاته، بما يتناسب مع مرحلته، إذ إن الرواية تتطوّر بسرعة كبيرة، والتجريبية الواسعة التي تتمتع بها تجعلها اليوم خارج الأبوة وقواعد الطاعة والانتماء.

تبقَّى العبث المفزع في تحت المظلة. والشخصيات المتناقضة التي تبدو قوية لكنها حقًا ضعيفة في الثلاثية. تبقَّت نظرته للعاهرات وطموحهنّ البسيط وجملهن السهلة وهنّ يجلسن على الأسرَّة مستسلمات في اللص والكلاب. تبقَّت نظرته للخير والشر، والسقوط والصعود، والمجتمع الفاسد الذي يغرق الشريف رغمًا عنه في زقاق المدقّ. تبقَّى السحر والإيمان بالله الذي لا يقبل أي تنازلات في الحرافيش. تبقَّى الإيمان بالعلم ومحاولة كتابة تاريخ صغير للبشرية في أولاد حارتنا. تبقَّى اليأس الكامل، والمصير الأسود لعائلة فقيرة في بداية ونهاية. تبقَّى الغموض، والعفاريت، والتجسُّد، واللغة التي تدعو القارئ للابتسام وربما البكاء فرحًا في ليالي ألف ليلة. وتبقَّت الحكمة الهادئة، وانتقاد السلطة بلا هوادة، والحكم القاطع بإدانة كل قمع بوليسي، في الأحلام وغيرها.

لكن أظهر ما تبقَّى من محفوظ الطريق، يسير فيه بإرادته شابًا، ثم يحيد عنه رجلًا ناضجًا نتيجة المغريات الكثيرة، ثم يعود إليه متردِّدًا وهو كهل بعدما كان على وشك أن ييأس، ثم يجتهد ويصبر على الطريق شيخًا، لا لأنه يؤمن بأن عليه أن يمضي فيه، فبعد مضي كل هذا العمر لم يعد هناك أمل حقيقي، لكن إيمانًا بالحب كملجأ أخير.

رسم نجيب محفوظ لعائلته طريقاً واضحاً ومُعبَّداً تحيط به الأشجار والزهور، بعد أن كانت تلك الطرق غائمة وملتوية ومتقطعة. كان من هؤلاء الرجال العظماء الذين لم يتركوا بصمة فقط، بل كنزاً ذهبياً تزداد قيمته بمرور الوقت. عاد نجيب محفوظ إلى الرواية الغربية وجلب إلينا صورتها. صار لدينا مفهوم واضح لمعنى الرواية، بعد أن كان ذلك الشكل حكراً على آخرين، وأقنعنا أن ذلك الشكل يمكن أن يمتلئ بطاقةٍ ووقائعَ وشخصياتٍ وملاحم عربية.

كان ذلك الطريق هو ما لضمّ عقد الروائيين، المصريين من بعده، مروراً بالجيل اللاحق عليه، جيل إدوار الخراط، وغيره، مروراً بالستينيين وما تلاه ووصولاً إلى التسعينيين. ولكنه لم يمنعهم أبداً من شق طرق فرعية أخرى، اتجه جمال الغيطاني، الأكثر قرباً منه حتى على المستوى الإنساني، إلى سحر الشرق ونهل منه، لم تعد الرواية على يد بعض الكتاب اللاحقين مثل عزت القمحاوي مجرد سرد، وإنما غزتها الأفكار والتكنيكات الجديدة، عرفت الرواية أيضاً السخرية على يد بعض كتاب التسعينيات، مثل حمدي أبوجليل، اتجهت الرواية إلى مناطق شديدة التجريبية على يد كتاب أحدث مثل طارق إمام وأحمد عبداللطيف، وهكذا، كان من الممكن أن يخرج الكتّاب عن طريق محفوظ إلى طرقهم الفرعية، ولكنهم أبداً لا يستطيعون القول إنهم لم يسيروا في طريقه أبداً.

وهكذا أصبح من حقه على عائلته، عائلة الروائيين، أن تخلده، ولو بتعليق صورته على حائط. تلك الصورة التي تشير إلى عظمة المؤسس، تكون معنا في البيت طوال الوقت، لا ننتبه إليها كثيراً، ولكن حين تقع أعيننا عليها لا يكون أمامنا سوى الشعور بالامتنان لصاحبها، لأنه يعني لنا الكثير، وأوله أنه اختصر علينا المسافات، وثبت أقدامنا جيداً على أرض ممهّدة نستطيع أن نسير فيها، وأن نختار حيواتنا كما يتراءى لنا.

لا شكّ في أنّ حركة الرواية العربية كانت بطيئة جداً في بدايتها. وإذا عدنا إلى تاريخها نجد أنها تأخرت كثيراً عن غيرها من الفنون الإبداعية، وظلّت فترة طويلة قاصرة أمام سطوة الشعر الذي وصم ثقافتنا العربية عقوداً طويلة. ولم يبزغ نجم الرواية في مجتمعاتنا «الشعرية» إلاّ مع أسماء ظهرت بين مطلع القرن العشرين وأواسطه، أبرزها طه حسين وتوفيق الحكيم وعبد الحق فاضل وتوفيق عواد.

لكنّ نجيب محفوظ هو الروائي الذي بدأ في ثلاثينيات القرن العشرين واستمرّ حتى بداية القرن الواحد والعشرين، ليرسم بأعماله الكثيرة أطول مسار للرواية العربية وأكثرها تأثيراً. فهو انطلق مع الرواية التاريخية والرمزية ليكتب من ثمّ الرواية النفسية والرواية الواقعية الاجتماعية والفانتازيا، حتى كاد يُجرّب كلّ الأنماط الروائية في رواياته.

ماذا بقي من محفوظ؟ بقيت أعماله التي أسّست الرواية الحديثة والتي أنتجت بدورها رواية ما بعد حداثية

تمرّد كتّابها على «أبيهم» الروحي وخرجوا من جلبابه ليكتبوا بلغتهم (هم) روايات جديدة، مع يقينهم بأنّهم جميعاً أبناء نجيب محفوظ، روائياً.

لا أعرف إن كانت القصة قد خرجت حقيقة من معطف تشيخوف، ذلك أن الإنسان ابتكر اللغة لكي (يقصّ)، هو كذلك منذ اللحظة التي قشّر فيها الموزة ونزل عن الشجرة، أما إذا كانت الرواية العربية قد خرجت من جلابية نجيب محفوظ، فقد يكون هذا الأمر صحيحاً بقدرٍ ما، مع أنني أفترض أنه لو وجِّه السؤال نفسه لنجيب محفوظ لتردد في الإجابة.

جيلي أنا من القرّاء والكتّاب، فتح عقله وخياله على نجيب محفوظ، على «اللص والكلاب»، و «الثلاثية»، وسواهما، وتغيّرت بنا الأزمنة والأمزجة، ومع المتغيّر إياه انتفضنا على محفوظ وهمنغوي، وتولستوي، ودوستويفسكي، ومن بعدهم جورج أمادو وغابرييل غارسيا ماركيز.

انتفضنا؟ إي نعم، غير اننا وحتى اللحظة لم نتجاوز هؤلاء، ما زلنا عاجزين عن خلق روح السرد إياها، بل وعاجزون عن جعلكة أبطالنا وإعادة خلقهم مرتين.. مازال سؤالنا أقل شاناً من أسئلتهم، دون نسيان ضربات الغرور التي تصيبنا كلّما استحضرنا الأساتذة. جيلنا لم يخلق أستاذاً بعد، وهذه حقيقة، ولذلك نحن لم ندخل جلابية نجيب محفوظ حتى نخرج منها، نحن مزّقناها دون أن نحيك معاطفنا.

نحن (بناديق)، ومن لم يكن منّا بندوقاً، فلا بد أن يلتهم أبيه.. هل تصدّق؟ كل مراهقتي في القراءة كانت مع نجيب محفوظ وحنا مينا، وهل تصدّق أنني لا أتذكر في هذه اللحظة واحداً أو واحدة من شخوصهما؟ أيّة بندقة أكثر من ذلك؟

أظن أن ثمة ما يعيد بث الروح في نصوص محفوظ، شئنا أم أبينا، مع كل قراءة جديدة، ويمكنني الزعم مطمئناً أن روايات محفوظ أشبه بمدينة أدبية تمتلئ بلغة لها خصوصيتها، وشخصيات فريدة برغم مرجعيتها، إلا ما ندر، للحارة الشعبية المصرية جسدت خارطة للتغيرات الاجتماعية في مصر على مدى القرن الماضي، أنماط من البشر تبدو كأنها منتزعة من الواقع لكن كلاً منها يمثل رمزاً عميقاً لقيمة أو فكرة أو فلسفة أو نمط تفكير، قابل لإعادة التأويل.

مدرسة الأدب الفلسفي إن جاز التعبير في زي القصة الواقعية المشوب بنزعة صوفية لا تخطئها عين، تقديري أن محفوظ رغم كل ذلك يبقى منه الكثير ليس أقله إعادة اكتشاف نص من نصوصه مؤخراً مثل «أفراح القبة»، ما يجعل حدسي بأن أعماله ستعاد قراءتها وفق آليات نقدية جديدة بما قد يشكل مدرسة خاصة في نقد أعماله. وهو بهذا كلاسيكي كبير، بالمعنى الإيجابي.

... «لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث، كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟

وهو تساؤل في محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام في آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون في أفريقيا من المجاعة. وهناك في جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضي عليهم بالنبذ والحرمان من أي من حقوق الانسان في عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر. وفي الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هَبُّوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هَبَّتِهم الباسلة النبيلة ـ رجالا ونساء وشبابا وأطفالا ـ تكسيرا للعظام وقتلا بالرصاص وهدما للمنازل وتعذيبا في السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب. يتابعون ما يحدث بغضب وأسى مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل.

أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء، فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره...

وفي هذه اللحــظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتــلاشى أنات البشر فى الفراغ. لا شك أن الإنسانيــة قد بلــغت على الأقل سن الرشد.

... رغم كلّ ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف «كانت» إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره...

(]) مقتطفات من نص الكلمة التي كتبها محفوظ أثناء تسلمه جائزة نوبل للآداب العام 1988، وألقاها نيابة عنه الكاتب المصري محمد سلماوي إذ حالت الظروف الصحية لمحفوظ دون السفر. وقد تسلمت ابنتاه الجائزة نيابة عنه.

جائزة أدبية تمنح لإحدى الروايات الصادرة الحديثة (باللغة العربية)، في حفل يقام كل عام في 11 كانون الأول (ديسمبر)، وهو اليوم الموافق ليوم مولد الأديب نجيب محفوظ. أنشأ هذه الجائزة «قسم النشر في الجامعة الأميركية» بالقاهرة العام 1996، وتبلغ قيمتها ألف دولار مع ترجمة الرواية الفائزة إلى اللغة الإنكليزية ونشرها.

1996: إبراهيم عبد المجيد (البلدة الأخرى) ولطيفة الزيات (الباب المفتوح).

1997: مريد البرغوثي (رأيت رام الله)، ويوسف إدريس (قصة حب)

1998: أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد)

1999: إدوار الخراط (رامة والتنين)

2000: هدى بركات (حارث المياه)

2001: سمية رمضان (أوراق النرجس)

2003: خيري شلبي (وكالة عطية)

2005: يوسف أبو رية (ليلة عرس)

2006: سحر خليفة (صورة وأيقونة وعهد قديم)

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل