المحتوى الرئيسى

في حب الظل

08/31 11:14

"من أراد النور فعليه أن يتعلم كيف يبقي في الظل"، جملة لفتت انتباهي بشدة بينما التقطتها أذنىّ صدفة وأنا أتنقل بين محطة وأخرى بالتليفزيون، الجملة كانت ذكرت على لسان المطرب حميد الشاعري بأحد لقاءاته، وبمجرد أن نطقها لامست وجداني على الفور.

نقابلهم كثيرًا في حياتنا.. هؤلاء المبتلين بحب الظهور وتضخيم الذات والتفاخر بالمنجزات "الفشنك" وذوي الأصوات العالية والمدعين والمطبلين والمنافقين والمتملقين، فتود حينها لو تمتد يد من السماء فتنتشلك من هذه البقعة السوداء من الأرض بعيدًا عن تلك الوجوه المدعية و"حفلات الوجود الخفيف" - وصف مقتبس - نجاة بنفسك وبحثًا عن راحة ترجوها دوما ولا تستطيع يدك ملامستها، عن حيز أسميه "متعة البقاء في الظل".

فجأة تتملكك رغبة في الفرار والركض بعيدًا لمكان تستطيع أن تسمع فيه صوت العصافير وحفيف الأشجار بوضوح بعد أن أخفتهما ضوضاء المدينة، أن تتنفس هواء نقيًّا وتنعم ببعض الهدوء وتستدفئ بضوء الشمس وتنعم بنور لم تمتد إليه يد بشري.

نحن المعلقين بين السماء والأرض.. لا نهرب من الناس فقط، ولكننا نهرب أيضًا من الزحام وضجيج المدينة والأصوات الزاعقة.

فدائمًا ما كنت أنأى بنفسي عن المنافسات البشرية فلم يكن من عادتي حب الظهور، كان دوري كالمتفرج الصامت الذي يرى كل ما يحدث حوله ليس شيئًا ذات أهمية بالقدر الذي يرونه ويستثيره في الوقت ذاته لإبداء الاهتمام أو أخذ الأمر بجدية، وقد وجدت في ذلك لذة تحوي بين جنباتها وهج الارتقاء وبريق العلو وألق الغموض، لا إراديًّا كنت أتوارى خلف الصفوف وأتحاشى الوقوف في بداية الطابور المدرسي، الذي عادة ما كنت آتي في نهايته هربًا من الروتين والملل اللذين نخرا به وبدايات الصباح الكئيبة والمزعجة، أتذكر صوت الطبول التي كانت تدق فوق رؤوسنا وكأنما نستعد لحرب ضروس.

لم أنج أيضًا من المدرسات الكئيبات اللائي لم يكن يشغلهن سوى الاطمئنان على استجابتنا لتعليماتهن بقص أظافرنا التي كنت عادة ما أطلقها، وكانت تبدو جميلة للدرجة التي حسدتني عليها طالبة ذات يوم ولم تصدق أنها نبت طبيعي.

أتذكر كيف كنت أنتظر والدتي بشغف الحبيب الذي ينتظر حبيبه الذي غاب عنه وحيدة ترتجف أطرافي دون سبب واضح لذلك، وكأني ولدت هكذا بإحساس فطري بالغربة ترعرعت جذوره منذ نعومة أظافرى، والذي ما زلت أقاومه إلى الآن بكل ما أوتيت من قوة، هكذ حكت لي أمي كيف حُفرت بذاكرتها نظرة الملهوف التي كانت تراها في عيني المتخشبة المتجهة صوب باب الحضانة انتظارًا لقدومها، كنت أتجنب خناقات الطالبات التافهة فكن في الأغلب فارغات العقول جل ما يشغلهن من الشاب الذي سينتظرهن خلف الباب علهن يحظين ويتلذذن ببعض المعاكسات السخيفة.

تجنبت هذه الخناقات ليس ضعفًا أو خوفًا فحينما قررت يومًا أن آخذ حقي من إحداهن وقفة المدرسة بأكملها تشاهد مناظرة الخناق الراقية التي قررت أن أخوضها حينما رغبت نفسي في ذلك، والتي أتذكر أنني كنت الفائزة بها بعدما انفجرت الطالبات ضحكًا على غريمتي المشهورة بالبلطجة بعد أن جعلتها أضحوكة بينهن، فقط تحد أردت أن أخوضه فكان.

ابتعدت أيضًا عن الصفوف الأولى في الفصول الدراسية وبالجامعة، فلم تكن تستهويني فكلما بعدت كان أمرًا محببًا لي إلا أن الصفوف الأخيرة التي خيل لي أنها بعيدة عن الأنظار علِّي أتجنب فضول الأعين وشباك الصائدين لأخفت شعوري المزمن بالخجل ولأنعم بلحظات من الانفراد والحرية تخفيفًا من وطأة هذا السجن الصغير، للمفارقة، وعلى الرغم من جهد مضن بذلته للتخفي كان دائمًا ما تلتقطني أعين الأساتذة وكأنهم لا يريدون لي التنعم بهذا البعد ولسان حالهم يقول انزلي من عليائك، فيفاجأون كيف لهذه البعيدة الغائبة أن تكون حاضرة بكل تلك القوة.

نحن موجودن شئنا أم أبينا ولكن بإمكاننا أن نترك محترفي الالتحاق بالصفوف الأولى وعاشقي المنافسات التافهة والسجالات العقيمة ومحبي الظهور بأن يكون حضورنا خفيفًا دائمًا بجانب الظل، ظل يتخلله شعاع من الضوء فيقلل من قتامته وغموضه ويحيله لظل مشع أو كما يعرف علميًّا بالظل "المشعشع" فيضيأه ويبعث فيه النور، ورغم ذلك مفعم بأثر مستمد من حقيقتك ينزل وقعه خفيفًا صادقًا تاركا بصمة لا تنسى ولا تزول، ولا ترجو بعدها أن يتحول هذا الأثر متخليًا عن طبيعته المعنوية والروحية، وكما يقول محمود درويش الشاعر الفلسطيني:

هو خفة الأبدي في اليومي

أشواق إلى أعلى وإشراق جميل

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل