المحتوى الرئيسى

المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: هل سنعود إلى حارة النصارى؟

08/31 14:11

فى 18 فبراير سنة 1856 أصدر السلطان العثمانى عبدالمجيد الأول أول فرمان بإجراء مجموعة من الإصلاحات فى سلطنته لتنظيم الحياة الاجتماعية، وإزالة الفوارق بين المسلمين والمسيحيين، ولتنظيم بناء دور العبادة فى جميع الولايات التابعة للدولة العثمانية، فأوجب فى الخط الهمايونى الذى أصدره المساواة بين كل موظفي الدولة العثمانية فى الحقوق والواجبات، مهما كانت أديانهم ومذاهبهم، وعدم إجبار أى شخص على ترك دينه، وألغى جباية الأموال والضرائب، وألزم كل المواطنين فى الدولة بالخدمة العسكرية، وجعل التعيين فى مناصب الدولة المدنية والعسكرية مكفولا للكفاءات بدون تمييز دينى، وأعفى الكنائس من الضرائب والمصروفات، وجعل فترة البطاركة مستمرة حتى وفاتهم، وأمر بإنشاء مجالس من رجال من خارج الكنيسة ومن كهنة ورهبان لإدارة الشئون المالية، وحتى لا يعرقل من هم تحت رئاسته اصدار تراخيص ببناء دور العبادة أمر بأن يكون اصدار هذه التراخيص من اختصاصه شخصيًا.

وقارئ الخط الهمايونى يكتشف أن مصدره لم يضع اية قيود تحول دون مباشرة الشعائر الدينية، وأنه لم يضع أى شروط على بناء دور العبادة، ولم يحرم المسيحيين من وضع الصليب أعلى منارة كنائسهم، لم يحرمهم من سماع أجراس كنائسهم، فقد ساوى السلطان بين أفراد شعبه وميز المسيحيين عن المسلمين، فأناط بنفسه ودون سواه سلطة اصدار تراخيص البناء وجعل تراخيص المساجد من اختصاص مرؤوسيه.

ورغم انهيار الدولة العثمانية وإلغاء الأتراك العثمانيين نظام الخلافة فى سنة 1924 فإن الحكومات المصرية المتعاقبة مازالت تتمسك بهذا الفرمان وتعتبره قيدا على بناء الكنائس، رغم أن جميع نصوصه صريحة فى حق بناء الكنائس بلا قيود ولا شروط ولا إجراءات!!

ويبدو أن هذه الحكومات تتمسك أيضا بشروط وضعها أحد وكلاء وزارة الداخلية فى عهد عبدالفتاح باشا يحيى رئيس مجلس الوزراء، رغم أن واضع هذه الشروط لا يملك سلطة التشريع ولم تخصصه جهة من جهات الاختصاص فى وضع هذه الشروط، فضلا عن مخالفته الصارخة للخط الهمايونى نفسه.

وفى سنة 1882 ميلادية اصدر الخديو توفيق أول دستور مصرى، اعتبره فقهاء الدستور أكثر الدساتير المصرية تقدمًا وتطورًا باتجاه النظام الديمقراطى، لكن عجلة التاريخ لم تمكن المصريين من التنعم بهذا العقد الدستورى لمجتمع يتحول إلى نظام يعلى قيمة الفرد، إذ ما لبثت أن ابتليت مصر بالاحتلال، وألغت سلطة الاحتلال لمصر دستور 1882، واستبدلت به دستورا آخر اسمته «القانون النظامى» أصدرته عام 1883، وعاشت مصر قرابة أربعين عامًا فى ظل حكم استبدادى لا ينتصر إلا لأطماعه، حتى امكن للشعب أن يسترد يقينه ويصدر دستوره الثانى فى 9 ابريل سنة 1923، وهو الدستور الذى انعقد وفق مبادئه أول برلمان للشعب المصرى.

فى 15 مارس سنة 1924، وفى ذات العام وافق المجلس الوطنى الكبير فى تركيا على إلغاء الخلافة الاسلامية، وينص هذا الدستور فى مادته الأولى على: أن مصر دولة ذات سيادة وتنص المادة الثالثة على أن: المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفيما عليهم من واجبات وتكاليف، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين.

وتنص المادة 12 على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وتنص المادة 13 على أن تحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية فى الديار المصرية على ألا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافى الآداب، وتنص المادة 153 على أن ينظم القانون الطريقة التى يباشر بها الملك سلطته طبقا للمبادئ المقررة بهذا الدستور فيما يختص بالمسائل الخاصة بالأديان السماوية المسموح بها فى البلاد وإذا لم توضع أحكام تشريعية تستمر مباشرة هذه السلطة طبقا للقواعد والعادات المعمول بها.

ومفاد هذه النصوص أن حرية الاعتقاد باتت أمرا مباحا يمكن ممارسته فى أى زمان وفى أى مكان، ولا يملك أحد تعطيله مادام لا يخل بالنظام العام ولا ينافى الآداب، أما إقامة دور العبادة فإنه لا يجوز اقامة الشعائر الدينية لغير المسلمين فى مكان مخصص لذلك إلا بعد الحصول على أمر ملكى بالترخيص به طبقا لما أوجبه الخط الهمايونى فى هذا الشأن.

واستقر افتاء إدارة الرأى بوزارة الداخلية على أن اقامة الشعائر الدينية بصفة عامة تتم فى أماكن هى دور العبادة، ونظرا لما يتطلبه إنشاء هذه الدور من تنظيم، فقد خضع هذا الإنشاء لترخيص الإدارة طبقا لأحكام الخط الهمايونى الذى ظل معمولا به فى ظل دستور سنة 1923 اعمالا للمادة 167 منه التى قضت بأن كل ما قررته القوانين والمراسيم من أحكام يبقى نافذًا بشرط أن يكون نفاذها متفقًا مع مبادئ الحرية والمساواة، وأنه ليس فى ذلك ما يسمى حرية اقامة الشعائر الدينية المقررة فى الدستور.

ولا شك أن ما انتهت إليه إدارة الفتوى فى هذا الشأن مخالف لمبدأ الحرية والمساواة الى كفلها الدستور، فإذا كان المصريون - بنص الدستور - لدى القانون سواء، وهم متساوون فى التمتع بالحقوق، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الدين، وكانت حرية الاعتقاد مطلقة، وكان من حق المسلمين بناء ما يعن لهم من دور عبادة دون ترخيص بذلك من الملك أو من رئيس الجمهورية فإن اشتراط صدور هذا الترخيص عند بناء الكنائس انما فيه اخلال صارخ بمبدأ المساواة  الذى نص عليه الدستور.

«الثابت» من مطالعة دساتير سنة 1930 و1956 و1958 و1964 و1971 أن جميعها تنص على أن المواطنين لدى القانون سواء، وأنهم متساوون فى الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، وأن الدولة تكفل حرية  العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وأن كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور الدستور تبقى صحيحة ونافذة، ومع ذلك يجوز الغاؤها أو  تعديلها وفقا للقواعد المقررة فى هذه الدساتير، فإنه ورغم اقرار هذه الدساتير بأن المواطنين لدى القانون سواء فإن الحكومات المتعاقبة مازالت تمايز بينهم على أساس الدين فتستوجب صدور ترخيص فى انشاء دور العبادة  التى يؤدى فيها الأقباط شعائرهم الدينية دون ان تشترط هذا الترخيص لبقية أقرانهم فى هذا الوطن.

واختلف الحال بعد ثورتى 25 يناير و30 يونية ففى 18 يناير سنة 2014 أصدر المستشار عدلى منصور الرئيس المؤقت قراراً بإصدار الدستور المعدل. وأشار فى ديباجته إلى أن مصر هى مهد الأديان، وعلى أرضها شب موسى عليه السلام، وعلى أرضها احتضن المصريون السيدة العذراء ووليدها، وقدموا آلاف الشهداء دفاعاً عن كنيسة  السيد المسيح، وأن فى  العصر الحديث استنارت العقول، وبلغت الانسانية  رشدها، وتقدمت الأمم والشعوب، رافعة رايات الحرية والمساواة، وأن الانسانية الآن تأمل أن تنتقل إلى عصر الحكمة لتبنى عالماً انسانياً تسوده الحقيقة والعدل، وتصان فيه الحريات وحقوق الانسان، فنكتب دستوراً لدولة عادلة، دستورا يستكمل بناء دولة ديمقراطية،  حكومتها مدنية.

وتنص المادة الثالثة من دستور 2014 على أن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين هى المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية وتنص المادة 53 على أن: المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات، لا تمييز بينهم بسبب الدين، وأن التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون. وتنص المادة 64 على أن: حرية الاعتقاد مطلقة، وأن حرية ممارسة الشعائر الدينية، وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون، وتنص المادة 92 على أن: الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلا ولا انتقاصا، ولا يجوز لأى قانون  ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها، وتنص المادة 94 على أن سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة، وتنص المادة 99 على أن كل اعتداء على الحرية الشخصية وغيرها من الحقوق والحريات العامة التى يكفلها الدستور والقانون جريمة، وتنص المادة 224 على أن كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور الدستور يبقى نافذاً، ولا يجوز تعديلها ولا إلغاؤها إلا وفقا للقواعد والإجراءات المقررة فى الدستور، وتلتزم الدولة بإصدار القوانين المنفذة لأحكام هذا الدستور، وتنص المادة 235 على أن يصدر مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد العمل بهذا الدستور قانوناً لتنظيم بناء وترميم الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية.

وبذلك فإن المشرع الدستور جعل حرية الاعتقاد مطلقة، واعترف بحرية ممارسة الشعائر الدينية واقامة دور العبادة، وأقر بأن ذلك حق ينظمه القانون، وأنه لا يجوز لأى قانون ينظم هذا الحق أن يقيده أو يمس أصله أو جوهره، واعتبر  كل اعتداء على هذه الحريات جريمة، وأن كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور الدستور يبقى نافذاً ولا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا وفقاً للإجراءات المقررة فى الدستور.

ولما كان الدستور هو القانون الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، وإذا كان الدستور هو صاحب الصدارة على ما دونه من التشريعات، فإنه يتعين على هذه التشريعات النزول عند أحكامه، وإذا ما تعارضت هذه وتلك وجب الالتزام بأحكام الدستور، ومن ثم فإن البرلمان ملزم بإصدار القانون بما يكفل حرية ممارسة حق المسيحيين فى بناء كنائسهم، وممارسة شعائر دينهم بدون قيد أو شرط، ولا يجوز له ولا للحكومة أن يقيدا هذا الحق أو يمسا أصله، وأن أى اتفاقيات ابرمتها الحكومة مع ممثلى الطوائف ويكون من شأنه أن يقيد هذا الحق، أو يمس جوهره، تكون معدومة، ولا ترتب أى أثر.

ولا يغير من ذلك ما نص عليه الدستور فإن كل ما قررته القوانين واللوائح قبل صدور الدستور يبقى نافذا، ذلك لأن الدستور مادام أورد نصاً صالحاً بذاته للإعمال بغير حاجة إلى سن تشريع أدنى لزم إعمال هذا النص من يوم العمل بالدستور، ويعتبر الحكم المخالف له فى هذه الحالة قد نسخ بقوة الدستور نفسه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل