المحتوى الرئيسى

صناعة صورة الهيبة الروسية

08/30 01:23

قبل أن تفعل روسيا أي شيء فعلت كل شيء، وما فعلته واشنطن على مدى عقود فعلته موسكو في أشهر قليلة...

فمنذ اختار فلاديمير بوتين الاستعراض ـ القيصري في حفل تنصيبه رئيساً عائداً إلى الكرملين قبل أربعة أعوام ونيف، على وقع تقنيات عالية من الإبهار البصري في مشهد يختزل العظمة، من دخول موكبه الى القصر الحصن (وهو معنى الكرملين بالروسية)، إلى تجاوزه أبواباً مذهّبة عملاقة تنفتح له على حركة الكاميرا المحلقة في قاعات باذخة الفخامة، والمترافقة مع مشهدية خارجية لقبب الكاتدرائيات التاريخية ونهر موسكوفا وصولاً الى الساحة الحمراء حيث رائعة القديس باسيل، منذ تلك اللحظة، ومشهد العالم بدأ يتبدل.

لم يعد بوتين يختصر نفسه بصورة رئيس يمتطي الخيل عاري الصدر، ويلاحق نمراً ببندقية قناصة، أو يمارس الغطس ويطرح أبطالاً في لعبة الجودو أرضاً. صارت صورته، بعد ضرب الغرب على خاصرته الرخوة في أوكرانيا، غير تلك التي كانت. ارتدى ثوب الجدية، وحضر إلى وزارة الدفاع في الثلاثين من أيلول عام 2015 معلناً للمرة الاولى عن حرب خارج حدود روسيا الاتحادية أو الاتحاد السوفياتي السابق، ومقرراً الانتقال إلى مرحلة جديدة ودور جديد لا يشبه ما سلف من انكفاء.

لم يعرف العالم قبلاً مشهد رئيس روسي في قاعة مهيبة في وزارة الدفاع ينتظم في بهوها عشرات الضباط والجنود محاطين بشبكة واسعة من الخرائط العسكرية وشاشات العرض الرقمية الموصولة بمنظومة مراقبة واتصالات عبر الأقمار الاصطناعية مباشرة من سماء سوريا حيث بدأت المقاتلات والقاذفات الروسية رمي مواقع «داعش» ومن شاكله من جماعات بأطنان من المتفجرات. قاذفات عابرة للحدود والخرائط وبوارج تطلق صواريخاً مجنحة عابرة للقارات من بحر قزوين المغلق على تحالف شراكة مع إيران، ومدمرات وغواصات نووية تطلق صواريخها من البحر المتوسط كل صراعات العالم والحاضن كل أساطيل القوى، في فعل استعراض متعمد للقوة أكثر منه حاجة ميدانية فعلية، حاجة يمكن للمقاتلات والقاذفات الموجودة في قاعدة حميميم السورية القيام بها.

وقبل الـ «سو 34» والـ «تو 22 إم 3» و «كاليبر» المجنح، كان فلاديمير بوتين قد أكمل كامل عدة الدور العالمي الجديد، فرئيس ديبلوماسيته العتيق سيرغي لافروف بات خبيراً بخطوط الطول والعرض جيئة وذهاباً في طيرانه الدائم على مدار الكرة الأرضية، وسيرغي شويغو بات إسماً شائعاً وحاضراً في الإعلام بخلاف أيٍ من أسلافه من وزراء الدفاع حتى أيام الاتحاد السوفياتي، اما ماريا زاخاروفا فظاهرة جديدة وظهور يومي لمتحدث باسم الخارجية لم تكن روسيا تعيره سابقاً أي اهتمام.

كان العمل دؤوباً منذ عقد خلا لاستعادة الأمجاد السوفياتية، وكان إتقان العربية ضرورة استراتيجية مستجدة ربطاً بساحة العمل المقررة، وإلا لما كانت قناة «روسيا اليوم» الناطقة بالعربية بإمكانات ضخمة ورعاية خاصة من بوتين نفسه، ومقارنة بسيطة بين تجربة «روسيا اليوم» الروسية و «الحرة» الأميركية، تؤكد الجدية الروسية ومغادرة الروسي دور المقلِّد للأميركي إلى الفاعل الأجدى، فالأولى استمرت باندفاع وتغطيات وتفاعل يكاد يفوق حضور أعتى الفضائيات العربية، والثانية اقتصر مدى تأثيرها على العراق قبل أن يضمر دورها وتنحسر مساحة حضورها ويطويها النسيان. وصارت أسماء وكالات أنباء وصحف روسية حاضرة في اقتباسات وسائل الإعلام أكثر من نظيراتها الغربية المعمّرة.

وعندما أسقطت تركيا الطائرة الروسية على حدود الاشتباك في سوريا، لم تذهب موسكو مذهب الردّ الكلاسيكي المباشر، على قاعدة أن الحروب الكبرى لم تعد تقليدية بل حروب تبدأ بالأهداف وتنتهي بالنقاط، ولذلك كان الرد بخرق جديد لستاتيكو استراتيجيات التسلح، بإحضار منظومات الدفاع المتطورة جداً من طراز «أس 400»، وكأن موسكو اختصرت في أسابيع وأشهر، من حشد لكل أسلحتها الاستراتيجية في منطقة الاشتباك العالمي في الشرق الأوسط، ما اشتغلت عليه واشنطن و «الناتو» عقوداً من الزمن.

لكن برغم كل ذلك، جاءت الهدنة المتفق عليها مع واشنطن بعد تحولات ريف حلب الجنوبي المتسارعة لغير مصلحة حلفاء واشنطن، لتعيد الشك إلى سابق عهده: فلاديمير بوتين لم يتغير، وكل ما فعله لا يعدو كونه استعراض قوة للمساومة في أوكرانيا وعرض سلاح للبيع في سوق السلاح العالمية. ثم جاء قرار الانسحاب ليقطع الشك باليقين، قبل أن يتبين أنه جزئي شكلي، ولم تمضِ على إعلانه ساعات لتستعيد الطائرات الروسية زخم غاراتها ويعود كل شيء إلى ما كان. وما كان من مفاجأة همدان إلا تأكيد المؤكد، فالتحالف مع إيران النووية ليس عابراً عبر بحر قزوين فقط، والعالم بات أمام واقع جديد، لن تبدله تعبيرات الأسف الأميركية.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل