المحتوى الرئيسى

خذوا عني مناسككم

08/29 11:13

بقلم – الشيخ أكرم عقيل مظهر (رحمه الله):

وكأني به صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخرج من بيته الشريف بعد أن تطايرت الأنباء في أرجاء شبه الجزيرة العربية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم على حج بيت الله الحرام، وما أن وصل الخبر هنا وهناك حتى إهتزت أرجاء شبه الجزيرة بألاف من المسلمين تستعد وتتحرك لتلحق بخير خلق الله وتشرف بالحج مع خير من صلى وصام، وأفضل من طاف بالبيت الحرام.

يخرج من بيته على رحل متواضع وعلى ناقته ُقطيفه لا تساوى أربعة دراهم وهو يقول: اللهم حجًا لا رياء فيه ولا سمعة.

إخلاص النية .. إخلاص التوجه .. إخلاص القصد، معاني يعلمها لنا المعلم الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

ويتحرك ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينـزل بميقات أهل المدينة بذي اُلحليفه، فيبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرم من الميقات ويسوق الهدي ويخرج من الميقات قاصداً مكه.

ياله من مشهد، المسلمون يخرجون مع رسول الله محرمين ملبين متشرفين بخير معية، والقبائل تنتظر بالطريق فتلحق بركبه صلى الله عليه وآله وسلم، مشهد النور تحُفه ملائكة الرحمن. النبي في طريقه لأداء حجة ُيعلم فيها الأمة، ويؤدي الركن الخامس ليكمل بذلك الدين وتتم النعمة.

ويصل رسول الله إلى مكة ويدخل إلى المسجد الحرام ويستلم الحجر ويقبله ويضع جبهته الشريفة عليه، ويبكي ويبكي عمر بن الخطاب ويبكي الناس فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عمر ها هنا تسكب العبرات".

صدقت يا حبيبى يا رسول الله، ها هنا تسكب العبرات وتسيل من المؤمن دموع الندم ويعتصر الفؤاد وهو يسأل الله المغفرة والتوبة والقبول.

ويطوف النبى بالبيت وأنظار المسلمين متعلقة بحضرته، تجول بين النظر إلى البيت وهو عبادة كما ورد عن النبى، فأن كان النظر إلى البيت والحجارة قد صار عبادة بتشريف الله له وتعظيمه إياه، فما بالنا بالنظر إلى أشرف مولود وخير موجود فى هذه الدنيا؟!

ويتم النبى طوافه، ويصلي ركعتين خلف المقام، مقام إبراهيم، والأيات البينات التى قال عنها الحق: {إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ}.. [آل عمران : 96].

أُمر النبي أن يتخذ المقام مصلى فقال له ربه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ}.. [البقرة : 125] يُلبى النبي أمر ربه فيصلي ويصلي الناس.

ويتوجه الحبيب إلى زمزم، فيشرب ويدعو، هذا الماء المبارك، خير ماء على وجه الأرض، فيه مأرب للناس فقد قال الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه: "زمزم لما شرب له"، فيشرب ويشرب المسلمون وهم يتابعون الأسوة الحسنة، والقدوة العظمى، والمعلم الأكبر، حضرة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

ويتوجه المشرف صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصفا، فيقول أبدأ بما بدأ الله به: {إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطّوّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.. [البقرة : 158].

ويسعى رسول الله بين الصفا والمروة، ويحيى سنة السيده هاجر أم سيدنا إسماعيل، فيصير فعلها لنا عبادة، نقتفى أثارها ونحيي تراثها، ونحيي في نفوسنا معاني الثقة بالله والتفويض والتوكل على الله التي ضربت هاجر عليها السلام المعنى الأكمل فيها وهي تقول لزوجها الحبيب سيدنا إبراهيم الخليل: "إذن لا يضيعنا".

ونحيى في قلوبنا معاني التسليم والرضا بقضاء رب العالمين، التي كان الخليل عليه السلام مظهرًا لها وهو يترك زوجته وولده الرضيع بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم.

تراث الصالحين وأثارهم التي جعلها الله لنا منسكًا وعلمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول للناس: "خذوا عني مناسككم".

ويتم النبي سعيه ويتوجه إلى منى فيبيت فيها ويصبح فيصلي بها الصبح ويتحرك مع شوق الشمس خير الأيام وأفضلها عند الله يوم عرفه، ومازالت الأنظار في كل لحظة تتابع رسول الله لتمتلىء الأنظار من نور النظر إليه، وتملأ القلوب بشدة التعلق بحضرته ومزيد محبته.

ويسير الركب المبارك حتى يصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ضربت له قبة بنمره، فخطب الناس خطبة بليغة، وهو يخبرهم أنه لعله لا يلقاهم بعد عامهم هذا، بصيرة الحبيب تخترق الحجب فقد كانت حجة الوداع.

ويسأل النبي أصحابه سؤالا تنخلع له القلوب، "عما قريب تلقون ربكم وهو سائلكم عنى فبماذا أنتم مجيبون ؟"، ويبادر أصحاب النبي قائلين نقول بلغت ونصحت، فينظر رسول الله إلى السماء قائلًا: "اللهم هل بلغت ؟ اللهم فاشهد".

ونحن يا رسول الله على ما عليه أصحابك، وعلى بعد الزمان بيننا وبينك نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت وجاهدت ونحن على ذلك من الشاهدين.

وها نحن يا رسول الله على اختلاف ألسنتنا وألواننا وأجناسنا نتحرى خطواتك ونلتمس بركة اتباعك، وها هو صوتك يخترق الزمان ويصل إلى أذاننا "خذوا عنى مناسككم".

وها هم الحجيج لا يقصدون البيت لأداء المناسك دون أن يحرصوا على زيارتك وإحياء معانى مودتك، يأتون إليك يصلون ويسلمون ويشهدون أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ويتوسلون بك إلى الله أن يدخلهم في شفاعتك ويكمل النبي خطبة عرفه، فيحذر المسلمين من حرمة أموالهم ودمائهم وأعراضهم ويخبرهم أن هذه الحرمة كحرمة هذا اليوم يوم عرفه، في هذا الشهر شهر ذى الحجة في هذا البلد .. البلد الحرام.

ويصلي النبي الظهر والعصر جمع تقديم ويقف بموقف بعرفات ثم يبلغ بلاغا ينبىء عن سعة ورحمة، وقفت هنا وعرفه كلها موقف)، بأبي أنت وأمى يا رسول الله.. رحيم الأمة، تخشى عليها العنت، قال تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ{.. [التوبة : 128]، وأنزل الله قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}.. [المائدة : 3].

ومع غروب شمس يوم عرفة، يدفع النبي وأصحابه متوجها إلى مزدلفه فيصلي بها المغرب والعشاء، ويبيت بها ويصلي الصبح، ثم يتحرك إلى منى فيرمي جمرة العقبة وينحر بيده الشريفة ويحلق رأسه، ويأمر بتوزيع شعره على أصحابه فينالوا بها بركة الأحتفاظ بأثار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل