المحتوى الرئيسى

«مكتبة ساسة»: سوريا بأعين الثوار.. «بلد يحترق» - ساسة بوست

08/28 11:10

منذ 10 دقائق، 28 أغسطس,2016

السحر المحمول، الرفيق الأوفى، المهرب الأسمى من الواقع إلى الواقع؛ كثيرٌ ما قاله العظماء عن الكتاب، لكنّني أقتبس هنا ما قاله «ويليام ستايرون»: «الكتاب العظيم يجب أن يترك لك الكثير من الخبرات، ويُشعرك بالإرهاق الخفيف مع نهايته. فأنت تعيش عدّة حيواتٍ أثناء القراءة».

ولأننا في حاجة إلى أن نرى العالم بعيون أخرى، تُقدّم لكم «مكتبة ساسة» لمحة عن كتاب جديد أو ورقة بحثية جديدة، وحياة جديدة نختبرها سويًا، من تلك التي لم تُترجم بعد إلى المكتبة العربية.

لأنني اقتربتُ من أسواركَ الصمَّاءِ

لأنني حاولتُ أن أكشفَ عن حزني وعن بلائي

أرغمني جندُكَ أن آكُلَ من حذائي

لأنَّ نصفَ شعبنا.. ليسَ لهُ لسانْ

ما قيمةُ الشعبِ الذي ليسَ لهُ لسانْ؟

قُلتُ لهُ: لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ..

لأنكَ انفصلتَ عن قضيةِ الإنسانْ..»

نزار قبّاني، هوامش على دفتر الهزيمة

من الصعب تخيّل كيف تحوّلت الثورة السورية من ميلادٍ جديد محتمل لسوريا التي عانت طويلًا من البطش والقمع، إلى المشهد الفوضوي العبثي الذي نراه اليوم. مئات الآلاف من القتلى، وملايين المعتقلين والنازحين والمفتقرين إلى السلع والخدمات الأساسية.

لم يكُن هذا بالتأكيد ما أرادته جموع الشعب التي خرجت في بدايات 2011، وكانت مطالبها مقتصرة على الإصلاحات السياسية والاقتصادية، قبل أن تتسبب وحشية النظام في درعا، واعتقاله 15 طفلًا دون سن الخامسة عشرة وتعذيبهم بسبب رسم «جرافيتي»؛ في إشعال الثورة.

يزخر المشهد الآن بالعديد من اللاعبين الدوليين وغير الدوليين المتناحرين الذين تتباين مصالحهم في سوريا؛ روسيا وإيران خلف نظام الأسد، والولايات المتّحدة تدعم الثوار تارة وتخذلهم تارة وتركيزها الأكبر على مقاتلة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يسعى بدوره إلى ضمّ سوريا إلى رقعة الخلافة، ناهيك عن تركيا التي ألقت بثقلها في المشهد. لكن صوت الثوار الحقيقيين يضيع في خضم النزاع؛ إذ لا يلقون التمثيل الكافي في المحافل الدولية والوسائل الإعلامية، وتُحاصرهم جميع الأطراف إلى الحائط حتى صار همّهم الأول هو البقاء.

«روبين ياسين قصّاب» الكاتب السوري البريطاني، و«ليلى الشامي»، المدوّنة والناشطة الحقوقية السورية، يحاولان في كتابهما، «بلدٌ يحترق»، الوقوف على ذلك الثغر. يقول قصاب في مقدمة الكتاب:

«لم يدعم أحدٌ الثوار. لقد كان هؤلاء الناس، الذين تخلّى عنهم المجتمع المسمّى زورًا بالدولي، والذين يتجاهلهم الإعلام ويسيء تمثيلهم في المعتاد، هم مصادرنا الأساسية. أصواتهم ورؤاهم شكّلت جوهر هذا الكتاب. سعينا إلى مساهمتهم ليس فقط لأنّها نادرًا ما يُنصت إليها، وإنما أيضًا لأنهم قد صنعوا التاريخ، وأملًا في أن نتعلّم شيئًا منهم».

قبل أن يصدع الشعب السوري بمطالبه في 2011، كانت سوريا «مملكة الصمت». يستفيض «قصّاب» في الحديث عن سياسات حزب البعث القومي السوري وزعيمه «حافظ الأسد»، والتي قمعت بنجاحٍ كل أشكال المعارضة والتعدد السياسي، وأخمدت عدة محاولات للانتفاض السلمي والمسلّح. وصل قمع النظام البعثي إلى ذروته في «مجزرة حماة» عام 1982، أسوأ حادثة قتل جماعي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، والتي قُتل فيها، طبقًا لبعض الإحصائيات، 20 ألف سوري.

يقول «قصّاب» إن المُخيف حقًا لم يكن عدد القتلى المهول، وإنما الحكايات التي تناقلها السوريون همسًا عن أحداث حماة، والتي تصف فظائع الاعتقال والتعذيب والاغتصاب. بعدها أصبح الصمت وسيلة اعتراض الشعب السوري، وسيطر نظام حافظ الأسد، الفاشي بامتياز، على سوريا بمزيج من الترهيب الوحشي والإصلاحات الاقتصادية المحدودة.

وبعد وفاة حافظ الأسد في مطلع الألفينات، و«انتخاب» ابنه بشار الأسد، تطلّع الناس إلى التغيير في مملكة الصمت. لم يكن هذا التطلّع بلا أساس، فالعام الأول لبشار شهِد تحولًا في خطاب رأس الدولة لم يعرفه السوريون من قبل، متحدّثًا عن تقبله النقد البناء، وعن الشفافية، والمساءلة.

تخفيف السلطة قبضتها على عنق السوريين في بداية حكم بشار ولو قليلًا أطلق طاقة جبّارة تمثّلت في تشكيل العديد من المنتديات الحوارية، والمطالبات الاجتماعية والسياسية، ربّما أهمها «بيان الألف»، الذي أصدرته لجان المجتمع المدني ووقع عليه الكثير من الشخصيات العامة والمفكرين، والذي انتقد مباشرة السلطوية ونظام الحزب الواحد، والفساد والمحسوبية. كما تشكّلت منظمات حقوقية مستقلة مثل «رابطة حقوق الإنسان السورية»، وأُطلق سراح المئات من المعتقلين السياسيين، أغلبهم من الإخوان المسلمين.

لكن النظام لم يلبث أن ضاق ذرعًا بضوضاء الحرية، وبدأ تضييق الخناق على المنتديات الحوارية والحركات السياسية مرة أخرى، واشتدت رقابة السلطة على المنابر الإعلامية. اعتقل النظام العديد من رموز الحراك السياسي الوليد، الذي ذهب البعض إلى تسميته بـ«الربيع الدمشقي»، قبل أن يقرر النظام تحويله إلى شتاء. من ضمن المعتقلين كان «رياض التُرك»، أو «مانديلا سوريا» الذي اعتقله نظام حافظ الأسد لمدة 18 عامًا.

«في سوريا بشار، كما في سوريا والده، كان السجن هو الوسيلة الرئيسية للسيطرة المجتمعية. كان تعذيب المعارضين وسوء معاملتهم يحدث بشكل ممنهج ونظامي. التعذيب تحديدًا كان يُمارس بشكل واسع في مراكز الاحتجاز التابعة للأجهزة الأمنية، حيثُ يعتقل الناس، غالبًا من دون أن يعرف أحدٌ عنهم شيئًا، ويُستجوَبون أشهرًا أو أسابيع».

بحلول نهاية العقد، كان نظام بشار الأسد قد خسر تأييد كل قطاعات الشعب التي كان حافظ الأسد قد نجح ولو جزئيًا في ترضيتها. الفلاحون انسحقوا تحت وطأة جفاف الأراضي، والطبقة المتوسطة عانت من الفقر والفساد النيوليبرالي. حتى ضريعة «الممانعة» لم تعُد تلقى صداها لدى الشعب بعد الانسحاب اللبناني، والجلوس المتكرر مع إسرائيل إلى مائدة المفاوضات، وهو ما مهّد للثورة السورية في بداية 2011، وما تلاها من مجازر لحقت بالشعب السوري في محاولة من نظام الأسد لإعادة المارد إلى القمقم.

ربّما أهم ما يتناوله الكتاب بقدرٍ كبير من التفصيل هو الدور الذي لعبه النظام السوري في تحويل الصراع في سوريا إلى نزاعٍ يقوم على أسس طائفية. أدرك النظام السوري جيدًا أن بقاءه يعتمد بالقدر الأكبر على إثبات أنّه الدرع الوحيد في مواجهة صعود الإسلاميين المتطرفين أو الوقوع في الفوضى الشاملة، أمام أعين الغرب، وأن مصالحهم ستتضرر كثيرًا بسقوطه؛ لعبة لطالما لعبتها الأنظمة العربية على تعاقبها. لذا لجأ النظام إلى تأجيج نيران الطائفية والتطرف في سوريا.

انتهج النظام في سبيل ذلك سياسة ذات جانبين: الجانب الأول هو تصعيد الانتهاكات بحق المجتمع السنّي. ينقل «قصّاب» انتهاكاتٍ شديدة البشاعة بحق السنيين في سوريا تضمنّت الاعتقال والتعذيب والانتهاك الجنسي، بل والذبح. واستهدف النظام مساجد السنّة، ومن ضمنها المسجد الأموي في حلب، والذي تمّ حرقه.

الجانب الثاني، والأقذر، هو إظهار العلويين في سوريا كشريكٍ في جرائم النظام، ليجعلهم ذلك هدفًا مستباحًا في أعين السنّة الغاضبين والمكلومين، ومن ثمّ يرتمي العلويون في أحضان النظام طلبًا للأمان. حيّ الزهرة العلوي في حمص كان سليمًا مضاءً بالكهرباء بينما تترامى حوله الأحياء المدمّرة والمحاصرة، بل وبيعت «الغنائم» التي استلبها النظام من منازل المعارضين بأثمان بخسة في «أسواق السنة». لجأ النظام إلى شبّيحة محليين علويين مشجّعًا إياهم على ارتكاب الفظائع بحق السنة. كانت إستراتيجية ذكّية، ولم يطُل الوقت حتى تحوّل المشهد من ثورة مطالبة بالإصلاح إلى عداوة طائفية.

«شجّع النظام النساء العلويات أيضًا للمشاركة في قمع جيرانهن، وهو ما تمخّض عن ردّ فعل متوقّع. اشتكت إحدى النساء السنّيات قائلة: «إنهن يأتين إلى بيوت الناس ويأخذن من أموالهم إن وجدوها كثيرة. يسرقن هواتفنا المحمولة. يوجهن الضربات واللكمات. وماذا فعلنا لنستحق هذا؟ أهذا لأنّنا مسلمون؟ لأننا نقول لا إله إلا الله؟ ألهذا فقدنا شبابنا وبيوتنا؟».

يُثبت هذا أن الصراع الطائفي في سوريا سياسي بالدرجة الأولى وليس دينيًا. فالشيعة يرون العلويين هراطقة، والتحالف بين إيران الشيعية وسوريا الأسد العلوية في مواجهة السنّة في سوريا كان هدفه الأول تأمين بقاء النظام الأسدي على رأس السلطة، وهو ما يخدم مصالح النظامين في منطقة الشرق الأوسط. يُثبت كذلك أن نظام الأسد ليس حقًا البديل الوحيد على أرض سوريا، لكنّه يعمل على سحق جميع البدائل الممكنة، وإظهار الأمر على أنه المخلّص والمنقذ الوحيد لسوريا من سقوطها في هوّة التطرّف، وحتى وإن كان ذلك عن طريق إحراق سوريا وتسويتها بالأرض.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل