المحتوى الرئيسى

درب الأكرات

08/27 21:11

احترت فى الأمر وكان على أن أختار هل أميز الطريق بالست عزة صانعة الرقاق فى المواسم، التى تقوم بخبزه قبيل العيد، وقد افترشت طرفا من درب الأكرات بمنطقة الخليفة؟ أم بالمنزل المهدم الذى لم يبق منه تقريبا سوى بعض عروق الخشب الداكنة التى كانت تستخدم بدلا من الخرسانة وبعض أحجار القاعدة؟ هل أبدأ باليوم الحلو أم بالمر؟ بالناس ثم المبانى والتاريخ أم العكس صحيح؟ فكل هذه العناصر مختلطة ويصعب فصلها.

الشارع هو الناس، والناس هى الشارع، وطرق البناء قديما وحديثا فرضتها الظروف والسياسة وما يتبعها، مجموعة عوامل مشتركة جعلت المعمار يبدو على ما هو عليه، فى الوقت السابق والحالى، ولا يسعنا سوى أن نشاهد ونلاحظ ونحاول ونترقب سقوط أى مبنى مجاور بين لحظة وأخرى، نظرا للحالة التى عليها معظم بيوت الحى العتيق، التى يظل بعضها يحمل ملامح جمال غابر.

انهار سلم العقار رقم 18 بدرب الأكرات وبعض أجزاء من الدور العلوى ودورات المياه، فى شهر فبراير الماضى، ومن حينها وتسع أسر تسكن فى العراء، وقد تعاقب عليهم أربعة رؤساء أحياء. يروى السكان حكايتهم لكل مسئول جديد، وقد سلموا عدادات الكهرباء واستوفوا الأوراق، لكن لم يستلموا شقق بديلة. عمر البيت ثلاثة أضعاف عمر جمال، عامل المقهى الخمسينى الذى كان ضمن السكان منذ أن ولد هنا، على بعد خطوات من مسجد السيدة سكينة، بنت الإمام الحسين. وبعده بقليل يقف جاره الذى يسكن وحيدا فى البيت، رقم 24، ذى الشرفة الخضراء، الذى صدر له قرار إزالة منذ أكثر من اثنتى عشرة سنة. عمله كنجار ارتبط بالمنطقة، فرفض المغادرة مع أسرته الصغيرة التى توزعت على منازل العائلة الأكبر.

كلما أردت أن أركز اهتمامى على الرقاق، بصفته عنصر أمل وبهجة وحركة وهزار وضحك ورائحة طيبة، أرجعنى الأهالى إلى المشاكل اليومية والرغبة فى توصيل صوتهم حتى لا ينساهم من لا يمرون بتاتا من الشارع الضيق.

أتأمل وجه ساكن البيت الوحيد وشعره الأبيض وشرفته الخضراء المشغولة بعناية. يغلق الباب الرئيسى وراءه كل يوم وينصرف. لا أتصور حياته طيلة كل هذه السنوات تحت الخطر الداهم، لكنه يعيش كأحد شخوص روايات نجيب محفوظ التى تخرج من ركام التاريخ.

ربما كان هؤلاء هم «الأكرات» وهذا دربهم، فلم أجد للكلمة أصلا لغويا واضحا، ورجحت أنها كانت «الأكراد» وتم تحريفها، بخلاف حارة الأكراد المجاورة التى احتفظت باسمها كما هو، ولا أدرى ما السبب. افترضت لوهلة أن «الأكرات» هم من يعيشون بين أكوام الحجر الذى تركته البيوت المنهارة على الأرض. على الأقل هذا هو الانطباع الآنى الذى يعطيه الشارع العتيق ببيوته التى طعنت فى العمر وأساءت إليها كثيرا المياه السطحية المتسربة من شبكات الصرف والتغذية التى يعلو منسوبها بالمنطقة، ما يصيب الأحجار بالملوحة ويسبب تلفا للبيوت والآثار. لذا تدرس محافظة القاهرة، بالتعاون مع وزارة الإسكان والجمعيات العمرانية المعنية، سبل تمويل مشروع تخفيض المياه، حتى لا تذهب جهود الترميم هباءً بعد فترة قصيرة من الزمن.

هذا الأخير ترك آثارا واضحة على المنطقة التى تمتد من شارع صليبة إلى ميدان السيدة نفيسة، بقبابها ومساجدها وأضرحتها وسكانها الذين يقدر عددهم بعشرين ألفا. هبوط وشروخ وميل وانهيار جزئى بمبانٍ تقع إلى جوار قبة الأشرف خليل وقبة محمد الأنور ومشهد السيدة سكينة. وعندما يقول لك أحد المارة إن جده هو من ساهم فى بناء هذا المسجد أو ذاك فهذا وارد جدا، بل قد تتأكد من المعلومة بمجرد مراجعة الاسم فى كتب المقريزى وعلى مبارك وغيرهما. قد تقابل أيضا داخل أحد الأضرحة من ينتسب مباشرة للشيخ أو صاحب الكرامات المدفون تحت الثرى منذ قرن أو أكثر، يرتبط بالمكان وقصصه المتوارثة مثلما العديد من السكان الذين يقف بعضهم ليتحدث إلى ولى من أولياء الله الصالحين وكأنه يفضى بأسراره لصديق. قد يحكى له عن أحوال صانعة الرقاق أو البيوت المهدمة أو الرزق الذى ضاق.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل