المحتوى الرئيسى

مشاهد مثيرة من قصة سامي الحاج بغوانتانامو

08/27 12:01

يستعد السجين السابق في غوانتانامو المدير الحالي لمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان سامي الحاج لإصدار كتاب جديد له بعنوان "غوانتانامو.. قصتي"، وهذه إحدى فقرات هذا الكتاب المثير:

تقدم نحوي الجندي الذي يقف قبالتي تماما وهو يسحب أمان رشاشه وطلب مني أن أخلع السروال الطويل، وبدأ بتحريك الكلب الذي كان ينبح بصوت عال، فخلعت السروال الطويل، ثم طلب مني أن أنظر أمامي ولا ألتفت إلى الوراء، كنت في ذهول تام، أشعر بألم ما فوقه ألم، ولا أدري هل هو ألم المرض أم ألم الأسر أم ألم القهر والإهانة التي كنت أشعر بها من إكراهي على خلع ملابسي أمام هؤلاء الأوغاد مع كلابهم ومجنداتهم، وأحيانا تنتابني موجة ذهول تخفف ألم البدن ولكنها تعمق جراح النفس، وذلك مصاب ما فوقه مصاب.

إنني أدين بدين يستحي الكثير من معتنقيه من التجرد جهارا أمام الزوجات، فكيف بالنساء الأخريات؟! لم يخطر في بالي قط أن يصل التعذيب إلى هذا الحد، ولم أكن البتة أستبعد أي نمط من أنماط التعذيب النفسي والبدني، ولكن هذه الحالة لم تخطر لي على بال، ولم أتخيل أن ينزل الإنسان إلى هذا الدرك من البشاعة واحتقار إنسانية الإنسان.

كان الصياح والنباح وأصوات قعقعة السلاح والبرد القارس والإضاءة الساطعة وتداخل وجوه المجندين والمجندات والكلاب في تلك اللحظة من الليل.. كلها تشكل صورة من صور تهاوي الإنسانية في حضيض سحيق من الدناءة والرذالة.

بعد هنيهة رمى لي أحدهم ملابسي، ووقفت متصلبا مذهولا، لا أدري ما أفعل ولا أستطيع حراكا، فهمّوا بإطلاق الكلب نحوي، وفجأة تداركت الموقف وعدت إلى رشدي، فقفزت إلى ملابسي وسترت عورتي، وعندما لبست القميص لم أستطع أن أشد الأزرار فقد تصلبت أصابعي من شدة البرد.

تقدم نحوي جنديان وقيدا يدي من الخلف ودفعاني إلى غرفة أخرى وجدت فيها شخصين يقفان خلف طاولة.

وقفت أمامهما، ثم حضر جنود آخرون اصطفوا صفين عن يميني وعن شمالي، وأنا أقف في الوسط وجنديان يمسكان بيدي.

كان أحد الجنديين الواقفين أمامي خلف طاولة يتكلم العربية بلهجة من لهجات شمال أفريقيا، بادرني ذلك الجندي متحدثا باللغة العربية: ما اسمك؟ فقلت: اسمي سامي محيي الدين محمد الحاج. وما جنسيتك؟ قلت: سوداني. قال: أنت صورت أسامة بن لادن؟ قلت له: لا، لم أصور ابن لادن. قال: لا، بل أنت صورت ابن لادن. قلت: لا، لم أصور ابن لادن، إنما أنا صحفي حضرت لتغطية الحرب فقط. قال لي: لا تنكر فلن يفيدك الإنكار، وإذا أنكرت فستتعرض للضرب والإهانة وستعرى من ملابسك، وقد تفقد حياتك هنا، هنا ليس أمامك إلا أن تجيب دائما بالإيجاب. فكررت إجابتي بعد إلحاحه، فقال: لا تتفلسف كثيرا، اصمت ولا تجب إلا عندما نسألك.

واستطرد يسأل: كم معك من المال؟ وما الأشياء التي بحوزتك؟

أجبت بأن معي بعض الدولارات والعملة الباكستانية والدراهم الإماراتية والريالات القطرية، ومعي جواز سفري وتذكرة سفر وبطاقتي الصحفية، ومعي راديو صغير وكاميرا تصوير ومعداتها، وساعة يد ونظارة ودواء.. فقال: اصمت.

دون إجاباتي في محضر، وأمر الجنود بأخذي خارج الغرفة فسحبوني إلى العنبر، كان عبارة عن عنبر قديم لصيانة الطائرات، أرضه من البلاط وقد وضعت فيه أقفاص كبيرة حددت بأسلاك شائكة، فتح الباب وأدخلت فوجدت أناسا نائمين.

سلمت لي بطانيتان قيل لي إن إحداهما فراش والأخرى دثار، وهما لا تنفعان في ذلك الجو البارد لا فراشا ولا دثارا، ولكنني من شدة التعب والإرهاق والنعاس افترشت إحداهما والتحفت الثانية، وسبحت في نوم عميق لم يقطعه منتصف نهار الغد إلا صياح الجنود برقمي حيث كنت أعطيت الرقم 35.

كانت الكلاب تنبح، والجنود ينادون: اصح يا 35، تحرك يا 35. كنت مثل جثة هامدة تغط في نوم عميق، استيقظت فزعا، فرأيت أحد الجنود وهو يناديني من خارج السياج، كانت بقية المجموعة من الأسرى جلوسا أمام وجبات غذائية من الطعام المعلب، لا يتعدى وزن الوجبة الواحدة مئتي غرام، رمى إلي ذلك الجندي بواحدة من تلك الوجبات في كيس بلاستيك وأتبعها بملعقة.

عاودني الذهول فأخذت أتلفت يمينا وشمالا، لا أدري أين أنا ولا كيف وصلت، ولا المكان الذي أجلس فيه، ولا الأحداث التي تدور حولي، عاد بي شريط الذاكرة إلى أحداث يوم أمس فاستعرضتها سريعا ومرت متداخلة من دون تركيز وأنا في ذهول لم يقطعه إلا صياح الجندي يطلب استعادة الصحون والمتبقي من الوجبات. قلت له: إنني لم آكل بعد، فصرخ في وجهي أن أعطيه الوجبة كلها، أعدتها إليه ولم أسلمه الملعقة التي كانت مرمية أمامي دون انتباه فطلبها هي الأخرى.

تفحصت المكان وتلفت ذات اليمين وذات الشمال فرأيت مجموعة من المعتقلين، كان المكان عبارة عن عنبر كبير لصيانة الطائرات في قاعدة باغرام الجوية، ويبدو أن هذا المكان شيد في عهد الحكومة الشيوعية الأفغانية، وقد عرفنا فيما بعد أنه كان قاعدة روسية في أفغانستان بنيت في عهد الاتحاد السوفياتي، ويظهر على المكان الإهمال وعدم الترتيب وكان مقسوما قسمين، في كل قسم أربع غرف موزعة على طابقين، أرضي وأول، كما قسمت مساحة الأرضية المتبقية إلى أربعة أقفاص، كنت في القفص الأول الذي يواجه الغرفتين الأماميتين، وأمامنا المبنى.

هممت أن أقوم لأداء صلاة الفجر وكان الجو باردا ولم أر الشمس، وكنت أحسب أن الساعة السابعة أو الثامنة صباحا، إذ كان هناك ضوء، وعندما هممت بالوقوف أمرني العسكري بأن أجلس، وقال إن الوقوف ممنوع، وكذلك النظر إلى أعلى والنظر إلى أسفل، ويمنع التحدث مع المعتقلين، وإذا أردت شيئا فعلي أن أرفع أصبعي حتى أحصل على إذن في الكلام وأن أتبع أوامر الجنود.

وبعد انتهائه من إملاء تلك الأوامر قلت له: إنني أريد ماء للوضوء، فقال: لا يسمح لك إلا بقارورة واحدة في اليوم، وإياك والاغتسال بها! عليك استعمالها للشرب فقط وإلا تعرضت لعقوبات قاسية.

كان الجنود يحملون بنادق من طراز "M16" ومسدسات شخصية وحقائب على ظهورهم، وعلى رأس كل منهم خوذة، وكانوا يحملون في أيديهم عصيا يضربون بها الأرض عندما يتحدثون فتصدر صوتا مزعجا، وكانوا يتوعدون ويشتمون ويتلفظون بألفاظ نابية وبذيئة يعف لسان العاقل عن ذكرها.

تلفت يمنة ويسرة فرأيت أحد المعتقلين يضرب بيديه الأرض، ويتيمم ويصلي وهو جالس فقلدته، تيممت وصليت وأنا جالس، وبعد انتهائي من الصلاة طلبت ماء فأعطوني قارورة من الماء صغيرة حسوت منها جرعات صغيرة، وبينما أنا أجول بناظري في المكان رأيت إحدى الجنديات وهي تنادي برقمي 35 وتقول: لا تلتفت، لا تتكلم، لا تتحرك، انظر تحتك. أدركت حينئذ أن الرقم مكتوب على ظهر ملابس السجن التي كنت أرتديها.

كانت أحداث الليلة الماضية تطارد مخيلتي، غير أن التعب والإرهاق أخذا مني فغلبني النوم، ونمت ولم أستيقظ إلا على صياح الجنود وهم يسوقون الناس إلى مكان قضاء الحاجة واحدا تلو الآخر، كانوا يضعون قيودا في أيدينا وأرجلنا طول الوقت، وعندما جاء دوري وهممت بالوقوف خانتني رجلاي ولم تقويا على حملي، حاولت مرارا حتى استويت واقفا فطلبوا مني أن أتحرك خطوات إلى الأمام، وأن أرفع يدي وأدور حول نفسي وأنظر إلى الخلف، فتحوا بوابة السلك الشائك وهجموا علي وأمسكوني وأنا مقيد من يدي ورجلي ثم أخرجوني وأغلقوا الباب على عجل، وأمروني بأن أنظر إلى أسفل وألا أتحرك إلا بإذنهم.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل