المحتوى الرئيسى

حب القوة والنفوذ والكيمياء العصبية الكامنة خلفهما

08/26 15:26

ملاحظة المترجم: القوة في هذا المقال هي قوة النفوذ والسلطة، وليست القوة البدنية.

القوة -وبالأخص القوة المطلقة والتي لا يمكن ردعها- هي قوة لها سُمِّيَّتها، تحدث آثار هذه القوة على المستوى الخلوي والكيميائي العصبي، وتظهر سلوكيًا بأشكالٍ عدة، تتراوح ما بين زيادةٍ في الوظائف المعرفية، مرورًا بنقصان في الكبح وقراراتٍ سيئة، ونرجسيةٍ مبالغٍ فيها وتصرفاتٍ منحرفة، وصولًا إلى الوحشية الشنيعة.

الدوبامين هو المادة الكيميائية العصبية، المعروفة -حتى يومنا هذا- على أنها المسؤولة الرئيسية عن الثواب الآتي من القوة، وهو نفس الناقل الكيميائي المسؤول عن الإحساس بالمتعة. 

تُنشِّط القوةُ نفسَ الدارة العصبية المسؤولة عن المتعة في الدماغ، وتعطي إحساسًا "بالانتشاء" بنفس الطريقة التي تعطي بها المخدرات هذا الإحساس، وكحال المدمنين، سيسعى أغلب الناس من ذوي مناصب القوة لأن يحافظوا على الانتشاء الذي ينالونه بوساطة القوة، وأحيانًا لا يأْلون جهدًا في الحفاظ عليه. 

والقوة عندما تُكبَح، مَثَلُها مَثَل أي عاملٍ مسببٍ للإدمان، تنتج عن كبحها رغباتٌ ملحةٌ على المستوى الخلوي، رغباتٌ تنتج عنها معارضة سلوكية شديدة للتخلي عن القوة. ولذلك فإن المجتمعات التي تعرِّض أفرادها للمساءلة، لديها نظام "المراقبات والتوازنات" checks and balances [1] من أجل تفادي العواقب المحتومة للقوة. 

ومع ذلك، في الحالات التي يمتلك فيها القادة قوةً مُطلَقة لا يمكن ردعها، فإن التغييرات على مستوى القيادة، والانتقالات إلى حكمٍ مبنيٍّ على الإجماع، تتم بشكلٍ غير سلس على الأغلب. السحب التدريجي للقوة المطلقة هو الطريقة الوحيدة التي تضمن أن يصير المرء قابلًا للتنحي عنها.

وكما بينتُ في كتاباتٍ سابقة، يتميز البشر بـ "أنانية عاطفية لا أخلاقية". 

البشر تُسيِّرهم العواطف، كما أن بوصلة أخلاقنا مِطواعة (قابلة للتغيير) ومتأثرة بشكلٍ كبيرٍ بالظروف وقيمة البقاء، وما نعيه على أنه "المصلحة الشخصية العاطفية" (وهذا ينطبق على أغلبنا، أغلب الوقت). 

ومع ذلك فإن العواطف لها أهميتها، فالعواطف تحدث بوساطاتٍ كيميائيةٍ عصبية، وهي مادية محسوسة نوعًا ما، ذلك أن هناك مركبات كيميائية عصبية مقابلة للعواطف.

الدوبامين مسؤول عن إنتاج الشعور بالسعادة، ويساعدنا أن نحتفظ بالمعلومات وأن نندمج في التعلُّم الذي يقوده الثواب.

يُفرَز الدوبامين في مناطق معينة من الدماغ بسبب التجارب ذات الثواب، كتحقيق إنجازٍ ما أو استهلاك الطعام، أوأيٍّ من متع الحياة الأخرى. ومع ذلك، فإنه يُفرَز كذلك عند القيام بتصرفاتٍ قد تكون غير صحية ومهددة للحياة بالخطر، كاستهلاك المخدرات أو المقامرة. 

على أي حال، إفراز الدوبامين هو الذي يجعل الأشخاص يعيدون المشاركة في هذه الأفعال.

ينشِّط الدوبامين "نظام ثواب"، وهو نظام لطالما كان ضروريًّا لبقاء نوعنا، محفزًا إيانا أن نعيد المشاركة في التصرفات الأساسية للحياة. هذه العملية هي التي أسميتها سابقًا بـ"مبدأ الارتضاء الكيميائي العصبي" neurochemical gratification principle واختصارًا NGP. حتى أن توقع الثواب يُعتقَد بأنه يعمل بنفس الطريقة التي يعمل بها الثواب نفسه [على نظام الدوبامين].

ومع ذلك، فكما أن التصرفات السليمة يحفزها نظام الثواب بشكلٍ مستمر، كذلك التصرفات غير السليمة يحفزها نظام الثواب. كذلك المخدرات كالكوكائين والنيكوتين، والأمفيتامينات، جميعها يمكن أن تؤدي إلى زيادةٍ في الدوبامين في نظام الثواب في الدماغ، فالإدمان هو حالة مفرطة من السلوك الذي يستخدم الشبكات العصبية الموجودة، والتي تُنتِج التصرفات الهوسية manic behaviour، والتي تظهر على شكل انتشاء elation وزيادة في القدرات المعرفية، والشعور بهوس العظمة.

على سبيل المثال، بدا أن كلًا من هيتلر وستالين ونابوليون، غير قادر على التعاطف وعلى إدراك قيمة الإنسان، مُدينين الآلاف حاكمين عليهم بالموت في حملاتٍ عسكريةٍ انتحارية. 

ومع ذلك، لا يزال من المحتمل أن القوةَ ذاتَها (وليس أيَّ شذوذ في التصرفات)، قد تكون المسؤولة عن المبالغة في بعض سمات التصرفات التي أبداها كل من هؤلاء الثلاثة.

الدماغ مبرمَج مسبقًا بشكلٍ كيميائيٍّ عصبيٍّ على أن يطلب المتعة، بغضِّ النظر عن مدى قبول ذلك اجتماعيًا، وبغضِّ النظر عن طريقة الحصول عليه. وعلى ذلك، فنحن جميعًا مدمنون -بشكل أو بآخر- لدرجة أننا جميعًا مشغولون في ملاحقة المساعي التي تضمن تدفق الدوبامين والمركبات الكيميائية العصبية. وبذلك، فنحن جميعنا أيضًا نتجنب الأشياء التي ينتج عنها انخفاض في الدوبامين. 

وكما هو حال مدمني المخدرات ومدمني الكحول، يستصعب الناس أن يعترفوا بأنهم مدمنون للتقبُّل/ الاحترام/ القوة، وذلك بسبب الانخفاض الذي سيحصل في مستوى الدوبامين فيما لو اعترفوا بذلك. وعلاوةً على ذلك، ليست مسألة إيقاف التصرفات الإدمانية المؤذية للذات أو الآخرين مسألةَ قوة إرادة.

والقوة، مثلها مثل المخدرات المسببة للإدمان، تستخدم هذه الدارات المجهَّزة مسبقًا، منتجةً سعادة غامرة. أما بالنسبة للدوبامين، فإن المستويات المعتدلة منه يمكنها تحسين جوانب الوظائف المعرفية، ولكنها قد تجعل الناس اندفاعيين وأقل اجتنابًا للخطر، وأقل تعاطفًا. 

أما المستويات المرتفعة من الدوبامين، فهي مرتبطة بأحاسيس تتعلق بقَدَر المرء، وخوض المخاطر، والانشغال بالانعزال الكوني أو الديني أو العاطفي، والذي قد يؤدي إلى قسوة القلب، والرغبة الشديدة بتحقيق الأهداف والانتصارات.

كما يمكن للقوة المطلقة أن تؤدِّي بالناس إلى أن يؤمنوا أن ثمة قوة روحانية تقودهم حتى في وجودهم ضمن أنظمة ديمقراطية. فعلى سبيل المثال، رئيس الولايات المتحدة السابق جورج بوش أخبر الناس أن الرب أراده أن يشن حربًا ضد العراق. وكذلك حليفه في حرب العراق، رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، يُظَن أنه كان يظن أن الرب أراده أن يأخذ الدولة للحرب من أجل محاربة الشر. 

هذا المقدار من الثقة الذي بدا أن هؤلاء القادة يمتلكونه، هو أحد أعراض وجود مستويات عالية جدًا من الدوبامين، لا يقتصر الأمر على أن يكون ذوو القوة مغرورين، بل إن الارتياب مرجَّح الوجود أيضًا، وهذا الأخير قد يكون نتيجةً لخداع الذات في مواجهة النصائح المخالفة التي ينصح بها المساعدون المقربون.

للكيمياء العصبية للقوة دلائلها المتعلقة بالسياسة والتغييرات السياسية، وبما أن القوة تفعِّل نظام الثواب العصبي في دماغنا، فإنه من المرجح أن يفتقد المدمنون -وأعني الأشخاص الموجودين في المناصب التي تتسم بالقوة المطلقة- الوعيَ الذاتي الذي يُعتبَر ضروريًّا من أجل التصرف مع ضبط النفس، أو من أجل السعي نحو اتخاذ القرارات بطريق الإجماع. وبذلك يكون الديكتاتوريون أكثر احتمالًا لأن يظهروا في حالاتٍ تكون فيها المراقبات والتوازنات [1] غير موجودة أو غير مدعومة. 

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل