المحتوى الرئيسى

دعاء عبد العزيز يكتب: الشخص الدون كيشوت | ساسة بوست

08/25 17:39

منذ 3 دقائق، 25 أغسطس,2016

دون كيشوت لمن لا يعرف هي اسم رواية عالمية للكاتب الإسباني (ميجيل دي سيرفانتس) ويرى الكثير من النقاد أنها أفضل عمل روائي على الإطلاق .

بطل هذه الرواية وهو دون كيشوت رجل نحيل ناهز الخمسين من العمر، فشل في كل شيء همَّ بفعله طيلة رحلة حياته فكانت النتيجة أنه كاد أن يفقد عقله. وبدأ يتخيل نفسه فارسًا شجاعًا فكان يرتدي كل يوم ملابس الفرسان حاملًا رمحه للقتال في معارك وهمية حيث كان يحارب طواحين الهواء متخيلًا أنها شياطين عملاقة وفي النهاية يعود إلى بيته مقنعًا نفسه رغم ما يعاني من جروح وآلام أنه عاد منتصرًا من حربه الوهمية تلك، وكان يفعل ذلك ليشعر ولو للحظات أنه بطل وأنه انتصر على الحياة ولو مرة واحدة.

لقد قام علماء النفس بتحليل شخصية دون كيشوت ودراستها. البعض رآه رمزًا للصراع بين المثالية والواقع والبعض رآه هوَس فقدان الخط الفاصل بين الخيال والحياة الواقعية.

وأنا وبعد قراءتي لهذه الرواية مرات عديدة على مراحل متفرقة من عمري، ومع بعض المعرفة بعلم النفس بحكم دراستي الجامعية، وصلت لاستنتاج قد يكون غريبًا بعض الشيء؛ وهو أن الدون كيشوت شخص نقابله في كل يوم إما في العمل, الحافلة, وسط الأصدقاء والمعارف في كل مكان يمكن أن نجد دون كيشوت مرتديًا قناع التحضر والمدنية والتعقل، فما فعله دون كيشوت بطل الرواية ما هو إلا ممارسة مبالغ فيها لحيل الأنا الدفاعية أو كما يسميها علماء النفس (ميكانزمات دفاع الأنا).

تأمل جيدًا حولك في عملك في الشارع في محيطك، وستجد الشخص الدون كيشوت إذا جاز لي إطلاق هذا المسمى.

من هو الشخص الدون كيشوت

هو شخص وقع تحت وطأة الشعور بالفشل والنقص، مرَّ في حياته بمحطات فشل شأنه شأن أي إنسان آخر، وعِوَضًا عن أن يتعامل مع فشله تحول لديه لهوس وفكرة مريضة فلا تتعجب أبدًا إن وجدته شخصًا ناجحًا من الظاهر بل ومرموقًا أيضًا. قد يكون رئيسك في العمل أو أحد زملائك الذين يشار إليهم بالبنان فكل هذا غير كاف لتحكم عليهم بالنجاح أو الفشل. فالنجاح شعور نابع من الشخص نفسه ومتوقف على وجهة نظره في فكرة النجاح ذاتها، ولا تتوقع من الشخص الدون كيشوت أن يسير بين الناس مرددًا أنا مريض أنا فاشل أريد الانتقام، بالعكس إن هؤلاء الأشخاص غالبًا لديهم القدرة على إخفاء هذا الشعور بل إنهم يتعمدون إظهار العكس تمامًا.

وقد يقول قائل: إذًا أين المشكلة؟ المشكلة هي أن حالة الدون كيشوت تلك مثلها مثل أي مرض لابد له من الظهور طالت فترة حضانته أو قصرت. فإذا ما تفاقمت وألحَّت الفكرة المجنونة على ذاك الشخص، يبدأ رويدًا رويدًا في فقدان السيطرة على عقله فيعمل على خلق حرب لا وجود لها مع أعداء وهميين أو طواحين الهواء كما وصفها الكاتب، وسيدهشك ذكاء هؤلاء الأشخاص وحنكتهم في التفسير والتحليل واختلاق الأسباب اختلاقًا.

وغالبًا ما يعاني الشخص الدون كيشوت من عقدة اضطهاد لا يتوانى أبدًا في إظهارها أمام الناس، فهو يحاول أن يؤكد لمن حوله أنه محاصر بالحاقدين والمتآمرين حتى يثبت لنفسه قبل أن يثبت للآخرين أنه ناجح وإلا لما ابتُلِيَ بالحاقدين والكارهين. وأتذكر جيدًا مثلًا أشار إليه أحد أساتذتي في الجامعة هو أنه (إذا قام شاب بمعاكسة فتاتين تسيران معًا في الشارع وكانت إحداهما قبيحة أو بالأحرى تشعر أنها قبيحة فتأكد أن أول من سيرد على الشاب ويوبخه هي القبيحة وذلك لتثبت لنفسها ولمن رأى الحادثة أنها جميلة وإلا لما قصدها ذلك المتبجح دون غيرها معاكسًا في محاولة منها للتخفيف من وطأة الشعور بالقبح).

وهذا نفسه ما يحدث مع الشخص الدون كيشوت؛ يفعل أي شيء ليشعر نفسه أنه ناجح حتى لو كان شعورًا وهميًا.

وليست المشكلة أن تتعامل مع ذاك الشخص. ولكن الاختبار الحقيقي أن يتعامل معك هو على أنك طواحين الهواء أي أن تكون أنت ضحيته وكبش فدائه، والشخص الدون كيشوت ليست لديه سياسة معينة في اختيار ضحاياه فقد تكون ضحيته شخصًا قابله في وقت كان الشعور بالنقص والفشل مسيطرًا عليه تمامًا. ومن الوارد أيضًا أن تصدر منك أي كلمة أو فعل غير مقصود فيستفز ذلك الشعور داخله وستكون أنت بالطبع أول المرشحين للعب دور طاحونته الملعونة.

فلا تتعجب أبدًا إذا وجدت أحد الأشخاص ناصبك العداء فجأة بل وأعلن الحرب عليك لمجرد كلمة ذكرتها أنت أثناء حوار دار بينكما وأنت لم تكن تقصده أبدًا، وهو أيضًا رغم كل ما سيدعيه ورغم كل ما سيظهره من غضب يعلم جيدًا أنه لم يكن المعنيَ بكلماتك أو فعلك ولكنه في تلك اللحظة ـ ولحظِّك العاثر معه ـ كان في أمس الحاجة لكبش فداء أو عدو وهمي يفرغ فيه ما يعتمل في نفسه من ثورة أحاسيس مريضة.

فإذا كانت تلك هي مرتك الأولى في التعامل مع تلك النوعية من البشر فبالطبع أول ما ستشعر به هي مشاعر الدهشة ثم الغضب العارم، وسيتردد في ذهنك سؤال واحد وهو كيف ولماذا؟

كيف يتجرأ ذاك الشخص على اتهامك ولماذا أنت بالذات. لا تتعب نفسك بالبحث عن إجابة لأنك لن تجدها. بل ستجد نفسك تنتقل وبسرعة إلى فكرة ضرورة الرد على المتعدي والثأر منه.

ومن خلال تجربتي البسيطة مع تلك النوعية والتي قد تعلمت منها الكثير والكثير، أستطيع تلخيص إستراتيجية مناسبة للتعامل مع الشخص الدون كيشوت وهي:

أولًا: وقبل أي شيء فالمفتاح السحري للنجاح في التعامل مع هذا الشخص هو ألا تتعامل معه على أنه خصم أو عدو، بل تعامل معه كونه مريضًا.

فهو لا يكرهك ولا يقصدك أنت تحديدًا، بل إن ما يفعله مجرد احتياج ماس لأي مبرر لدفع كل ما يعتمل في داخله وللأسف كنت أنت كبش الفداء، فإذا تيقنت من ذلك وآمنت بتلك الفكرة فقد أمسكت بأول الخيط الصحيح للتعامل مع هذا المسكين.

1 . إياك ثم إياك من الوقوع فريسة لاستفزازه، فرغم أن ذاك الشخص قد يكون في الأصل إنسانًا محترمًا ذا شرف ومبادئ إلا أنه في تلك الحالة سيطأ بقدميه كل الاعتبارات والمبادئ وسيستخدم أقبح الألفاظ وأكثر الأساليب وقاحة ليدفعك لفعل أي تصرف أحمق، فيثبت لنفسه وللناس أنك تستحق كل ما يفعله معك وأنه مجرد إنسان يستخدم حقه المشروع في الدفاع عن نفسه ضد مؤامرتك الدنيئة طبعًا.

فإذا فعل ذلك فالتزم الصمت وردد بينك وبين نفسك (دون كيشوت) (دون كيشوت).

2 . لا تفكر أبدًا في التحدث معه بمنطق تقديم المبررات والتفسيرات لتوضيح ما قد تظنه أنت لبسًا أو سوء فهم لأنه لن يعطيك الفرصة. فهو ليس في حاجة لمبررات بل يريدها حربًا وكفى، وإلا لماذا ناصبك العداء منذ البداية؟ فلا تُقْدِم على هذه الخطوة ليس غرورًا وكبرًا بل لتصون مقدارك فلا جدوى منها أبدًا، فلقد حلل وفسر وألقى الاتهامات وأصدر الحكم وشرع في تنفيذه كل هذا دفعة واحدة دون أن يتوقف لحظة ويسألك أو حتى يسأل نفسه، فاتركه يُخرج ما بداخله من حمم الغضب ولا تسأل أبدًا لماذا بل ردد دائمًا (دون كيشوت).

3 . لا تفكر أبدًا أبدًا أبدًا في الاشتباك معه أو الرد عليه لا في غمرة انفعاله ولا بعدها، لا أثناء تلك الحرب المفتعلة ولا حتى بعد نهايتها، لأنك إن فعلت حققت له ما يريد وهو أن يتحول ما اختلقه من حرب ملفقة إلى حرب ومعركة حقيقية، فبردك على اتهاماته ستصبح خصمًا بالفعل، وعدم دخولك معه في حلبة المصارعة سينهي المعركة قبل بدايتها وسيستمر الصراع بينه وبين نفسه، ولأننا بشر فأول ما سيتبادر لذهنك وقتها هو (لماذا لا أدافع عن نفسي ضد هذا المتعدي) فإذا ما ألح عليك السؤال فجرب تلك الحيلة البسيطة: تخيل أنك تسير في الشارع فتعرض لك شخص مجنون أو أبله وأخذ في سبك وبأقبح الألفاظ أمام المارة فماذا ستفعل؟ إن رد الفعل الطبيعي لأي عاقل هو أنه سيكمل سيره دون التوقف ولو لحظة للرد عليه. ومنذ متى يُرد على المجنون؟ وهكذا الأمر ها هنا؛ فإن الشخص الدون كيشوت في هذه الحالة يفقد السيطرة على عقله وتلح عليه فكرة الحرب وقد يفعل أي شيء لتتحول فكرته إلى واقع.

4 . اعلم جيدًا أنه مهما طالت حربه المزعومة وطالما لم تشارك بها أنت فهي منتهية لا محالة، أما إذا اندفعت وشاركت بها فستنتهي أيضًا ولكن أبشع نهاية تتخيلها بالنسبة لكليكما، وحتى تحمي نفسك من ضغط استفزازه فالأفضل لك غض الطرف عما يقول ويفعل، تعامل معه على أنه غير موجود بالمرة.

5 . واعلم أن صمتك هذا لن يهدئ منه بل بالعكس سيثير جنونه وبشدة، ولو استطاع سلخك حيًا وقتها لفعل لأنك وبموقفك هذا أجبرته على خلع قناع التحضر والتجمل الذي كان يرتديه أمام الناس، وهنا سيلجأ إلى الحيلة أو المرحلة الثانية فسيبدأ في توجيه التهم إلى نفسه والرد عليها بنفسه حيث سيصل منحنى جنونه إلى قمته.

اكتف أنت بدور المشاهد وستشعر حينها أنك تشاهد عرضًا هزليًا غير متقن الصنع، وصدقني لن تجد في نفسك تجاه ذاك المريض أية مشاعر كره أو حقد وإنما هي الشفقة، أجل الشفقة تجاه شخص حاول أن يظهر في منتهى الذكاء فكان صورة مجسمة للغباء، وسعى لرؤية نظرات الانبهار والإعجاب فلم يحصد سوى الامتعاض والشفقة.

ولا تنس ترديد التعويذة السحرية (دون كيشوت).

6 . ثق أن رد فعلك هذا سيجبره في النهاية على التوقف والنظر حوله، وسيجد نفسه واقفًا منفردًا في معركة وهمية يوجه الطعنات واللكمات لنفسه ويرد عليها بنفسه. معركة لا خصم فيها ولا ساحة قتال، ووقتها فقط سيدرك نظرات الدهشة الممزوجة بالشفقة البادية في عيون كل من حوله، ولأنه لن يقبل أن يراه الآخرون مهزومًا سيلجأ لحيلته الأخيرة وهي لعب دور الشهيد والمضحي. حيلة ساذجة مضحكة أعلم ولكن كن أنت الأذكى وتظاهر بتصديقك لها كي تنتهي تلك المهزلة وردد لنفسك باسمًا (دون كيشوت).

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل