المحتوى الرئيسى

أحمد الباهى يكتب: على هامش المذبحة..الشهيد الغائب «محمود سعد» | ساسة بوست

08/21 12:26

منذ 10 دقائق، 21 أغسطس,2016

التهرب من تدوين سير الشهداء

مما كتبه الإمام ابن الأثير في مقدمة تأريخه لحادثة اجتياح التتار لبغداد:

«لقد أعرضت عن ذكر تلك الفاجعة أمدًا من الدهر، فكيف لي أن أكتب بيدي نعي الإسلام والمسلمين، فيا ليت أمي لم تلدني قبلها ويا ليتني كنت نسيًا منسيًا».

بعد مجزرة رابعة العدوية خطرت لي فكرة أن أقوم بتأليف كتاب أتحدث فيه عن سير شهداء رابعة ممن أعرفهم، ومن لا أعرفهم، واختمرت الفكرة بعد عدة أشهر، وحددت معالم الكتاب ومنهج وقواعد التدوين لسيرة كل شهيد، وما إن أمسكت قلمي لأكتب مقدمة الكتاب حتى تداعت على خاطري صور الشهداء؛ فانتابتني حالة من البكاء اللاإرادي مع الشعور بغصة شديدة واعتصار قلب ولم أستطع الإكمال.

«الشهيد (بإذن الله) محمود سعد -الطالب بكلية الطب البشري- ربما كان من أشهر من تم استشهادهم في مذبحة رابعة العدوية، فهو ممن لم يُعثر لهم على جثمان حتى الآن».

حدث ذلك منذ عدة أشهر، عندما أرسلت السيدة الفاضلة المهندسة «أحلام عطوان» والدة الشهيد «محمود سعد» تطلب مني أن أكتب لها على الخاص ما أعرفه عن ابنها الفقيد، وذلك لما كان يربطني وإياه من روابط الأخوة، والجوار، وصحبة المسجد.

فما كان مني إلا أرسلت لها تلك العبارة «وكأنك يا أماه تريدين من أن أبكي بصوت يسمعه الناس».

إذ ماذا أقول لأم مُنتهى أملها أن تعثر على جثة ابنها النابغة المتميز، والذي اعتبره من نوادر الشخصيات التي عرفتها في حياتي.

وعزمت وقتها ألا يقتصر الأمر على خطاب خاص للأم الثكلى؛ بل يكون مقال عام يقرأه عموم الناس، ووعدتها بكتابة مقال خاص عنه ويا ليتني ما وعدت، وما تورطت في هذا المأزق، فقد كنت كمن ينحت في جدار قلبه، وكنت كمن يهرب من المواجهة لذكرى أليمة يتحاشى مواجهتها، وقد تعاون معي أصدقاؤه الذين طلبت منهم العون والدعم للكتابة عنه فجزاهم الله خيرًا.

عندما يجتمع النبوغ في العلم والفن

لعله من النادر أن تجد شخصًا متفوقًا في دراسته وأيضًا وموهوبًا في مجال الفن والإبداع، جسم ضئيل ووجه طفولي، وروح وثابة، ونظرات تشع ذكاءً، تلك الصورة التي انطبعت في ذهني منذ التقيته.

فهو طالب الطب المتفوق في دراسته «درجته في الثانوية العامة 101 % بإضافة المستوى الرفيع»، والحاصل على درجة الامتياز في كل سنوات دراسته بكلية الطب البشري بجامعة قناة السويس «توفي بعد إتمامه السنة الرابعة»، وكذلك مصمم مبدع للوحات وتصاميم الجرافيك بالكمبيوتر، وكذلك مونتاج المقاطع المرئية.

كان يرغب في الالتحاق بكلية الهندسة لتطلعه إلى السبق في مجال التكنولوجيا، إلا أنه بِرًّا بوالديه وبناءً على رغبتهما التحق بكلية الطب البشري، ولكنه عزم ألا يدع حلمه وطموحه، فكان يقرأ وينهل -بالتوازي مع دراسته الطب- من علوم الحاسب، فتعلم عدة لغات للبرمجة والتصميم بالــ (D3) وكذلك تصميم مواقع الإنترنت.

كان لا يحب الظهور رغم تميزه ومواهبه الفذة، حافظًا لكتاب الله، خلوقًا، لم أسمع ولم يخبرني أحد أنه أساء إليه.

لم يكن يترك مناسبة إلا ويبدع في تصميم لوحة تعبيرية لها، وما إن ينشرها على صفحته الشخصية حتى تتناقلها الحسابات المختلفة للمواقع.

تم انتخابه مُقررًا للدفعة بكليته، فكان كالنحلة في خليتها، دؤوبًا في نشاطه لخدمة زملائه يرفع شعار «خير الناس أنفعهم للناس»، وكان من مشروعاته الابداعية -التي لم تكتمل- إنشاء موقع خاص بكلية الطب البشري يضع عليه كل ما يحتاجه الطالب من إرشادات ودعم دراسي.

كان يخطط لافتتاح شركة برمجة متخصصة بجانب دراسته، بل اعتزم المشاركة في مؤتمر (Googel) السنوي، وشغله ذلك كثيرًا في آخر شهور حياته؛ حيث خطط مع مجموعة من الشباب للمشاركة بعمل إبداعي في المؤتمر، حتى أنه في الاعتصام بميدان رابعة العدوية لم يتوقف عن الإعداد للمشروع، وكان يعمل على حاسبه الشخصي في أوقاته البينية بالاعتصام.

كان دائمًا ما يقول لأصحابه ورفقائه: «أنت نفسك دعوة ولازم تكون قدوة»، فكان يؤمن بالدعوة العملية المتمثلة في إظهار النموذج الفريد للفرد المسلم.

أتذكر أنه في أثناء دوامة الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة كانت له بصمة في كل استحقاق، فيقوم بتصميم «بوستر» إبداعي يخاطب الشباب بلغتهم فيكون له بالغ الأثر، وواسع الانتشار.

سخر موهبته وقدراته لخدمة وطنه وأمته

وقد سخر موهبته تلك في خدمة العديد من الحركات الشبابية التي تقوم بالعمل الخيري في الإسماعيلية من تصميم ملصقات، أو مطويات، أو لافتات.

كان مبدعًا بحق، يجتذب بلمساته الفنية في كل عمل فني الأنظار، هذا بالإضافة إلى إبداعه في مجال المونتاج للمقاطع المرئية، وكم من حفل أمتع «محمود» الحضور بإبداعاته في صورة فيلم قصير، أو مقطع فيديو يشرح أو يخدم الهدف من الحفل.

وكم تمنى ودعا أن يجعله الله سببًا في تحرير المسجد الأقصى ونصرته. كان يعشق القدس ويشتاق لترابها وأهلها المجاهدين، ويقرأ سير الشهداء وتضحياتهم.

ما إن سمع بتدشين حركة أمناء الأقصى بالإسماعيلية، حتى سارع بالمشاركة والالتحاق بهم، وعرض خدماته واقتراحاته، وقد كان دائمًا ما يتغنى بأناشيد النصر والعزة، وتحرير القدس، والشهادة والجنة.

وكان مما كتب في يومياته على صفحته الشخصية ومدونته:

«إعداد النفس وإصلاحها وتزكيتها يكون بالمجاهدة والمعاهدة والمرابطة».

«لازم أحقق الحاجات دي تحقيق السبق يوم القيامة -حمل هم الدعوة- صناعة رجال يحملون

بعد وفاته -رحمه الله- تم العثور على عدة أوراق بخط يده يتحدث فيها عن طموحاته، والخطط المستقبلية لتحقيق أهدافه.

واترك لكم حرية التجول -وبدون تعليق- في أفكار هذا الشاب الواعد الذي كان يستغل كل ساعة في حياته لخدمة دينه، ووطنه، ومجتمعه.

وصيته عندما خرج للاعتصام برابعة العدوية

بعد الانقلاب مباشرة توجه محمود إلى الاعتصام بميدان رابعة العدوية؛ نصرةً للحق ودفاعًا عن الوطن، وكتب في وصيته سبب الخروج إلى الاعتصام برابعة العدوية:

«اللهم إنك تعلم أن نزولي فيك، ولا أنوي أن أؤذي أحدًا، ولا أحب ما وصلت إليه بلادنا، ولكنها الضرورة، أنت أعلم بالنيات وتحاسب عليها، اغفر لي وارض عني، وأدخلني الجنة في عداد الشهداء، يا رب عصيتك لكنك كريم رحيم رحمن صبور».

فكان كالجندي في الميدان، خفيف الظل سريع الحركة، مهتم أيضًا بنشاط التصوير والتوثيق للأحداث، وبالرغم من ضآلة جسده إلا أنه تطوع في فرق الحماية والدفاع عن الميدان.

ومنذ أن ارتقى زميله الشهيد -بإذن الله- الدكتور أحمد السيد، في مذبحة المنصة لم يكلّ من الدعاء لله أن يوفقه ليكون أهلًا للشهادة.

وقد بلغني من أكثر من مصدر من رفقائه في اعتصام رابعة العدوية أنه كلما دعا ربه بالموت شهيدًا في سبيله قرنها بدعائه: «وبألا يعثروا له على جثة ولا يعرف مكانه إلا الله سبحانه وتعالى». وقد كان ما تمناه (صدق الله فصدقه الله).

وياليتك ما دعوت بها يا محمود حتى لا ترهق نفوسنا الضعيفة، وقلوبنا المكلومة بفقدك مرتين، فقد روحك، ثم فقد جثمانك.

حادثة الاستشهاد «نقلًا بالتفصيل عن شهود عيان»

في ذلك اليوم الدامي والمُحزن في تاريخ مصر والعالم الإسلامي، عندما بدأت عصابات الانقلاب المسلحة صباح يوم الرابع عشر من أغسطس في عام 2013 في عملية فض ميدان رابعة العدوية، كان موقع «محمود سعد» في الجهة الغربية من الميدان عند شارع «يوسف عباس» ناحية المنصة. وقد كانت من أسخن جبهات الميدان وآخرها سقوطًا.

لم يتردد محمود سعد في التقدم للصفوف الأولى حاملًا الكاميرا ليوثق الجريمة -وقد كان كل من يحمل كاميرا مستهدفًا في ذلك اليوم-، كان واقفًا خلف ساتر رملي وتقدمت أمامه مدرعة للشرطة خرج من فتحة سقفها ضابط شرطة ببندقية خرطوش، ووجه للشهيد محمود سعد فوهة البندقية وأطلق رشقة الخرطوش كاملة في جسده، ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل تقدمت المدرعة لتهدم الساتر الرملي ليقع على جسد الشهيد محمود سعد وتم إعاقة تقدمها، فسارع رفقاؤه بالرغم من دوي الرصاص والخرطوش حولهم وسقوط ضحايا منهم لإزاحة أكياس الرمال من على جسد الشهيد، ولكن استغرق هذا الأمر بضع دقائق وما أن أخرجوه حتى فاضت روحه الكريمة لبارئها.

بعد فض الميدان بالوحشية التي شاهدها العالم اجمع، تلقى الأب والأم نبأ الفاجعة بقد ابنهما الموهوب النابغة؛ فتحرك الأب الأستاذ/ سعد محمود المحامي مع الأم المهندسة/ أحلام عطوان للقاهرة من فورهم، وقد أغلق الجيش الطريق بين الإسماعيلية والقاهرة، وحاولا مرارًا الوصول في نفس اليوم إلا أنهما فشلا، وبدأت رحلة البحث عن الجثمان.

وهنا أدعو «عبدالرحمن» شاهد عيان وصديق وجار «محمود»، والذي كان مرافقًا للأب المكلوم والأم الثكلى في هذه الرحلة الرهيبة، حيث طلبت منه كتابة شهادته، وأذكرها هنا كما وردتني ببعض التصرف اللفظي البسيط.

اتجهنا إلى مشرحة زينهم أنا وعمو سعد، طابوووووور كبيييير ممتد بطول شارعين جثث في الأرض ومنظر لا يوصف طبعًا! أول وتاني وتالت يوم كان زحمة مش طبيعية عند المشرحة، كنا بنتخانق عشان ندخل. كان معايا واحد صاحبي في أول يوم، ابن خال الشهيد أحمد السيد، قدرنا ندخل المشرحة ولفيناها كلها مش محتاج أوصف لك المنظر، بقايا لأشلاء وجثث متفحمة، وحتى الجثث السليمة أنت شايفها متفتحة قدامك عشان التشريح.

المهم فضلنا ما يقرب من 3 أو 4 ساعات في المشرحة، بعدين قلنا نرجع مسجد الإيمان تاني.

تقريبا كان امتلأ عن آخره جثث، والناس بدأت تيجي من كافة المحافظات كله بيدور. الشباب كانوا مجهزين كشوفات دورنا فيها كلها ملقناش اسم محمود.

كان في قسم الجثث المجهولة في المسجد «المحروقة والمفحمة» قلبّنا فيهم كلهم ومعرفناش نوصل لحاجة، مقدرناش نتعرف على حد. طلعنا برا المسجد بعد فترة كبيرة، تقريبًا كانت الساعة 12 بالليل مش فاكر بالظبط، والناس بتحمل الجثث اللي ليها في العربيات، واللي قاعد بيريح جت الشرطة بعربيات من قسم أول مدينة نصر وضربوا علينا غاز ورصاص، فاتحركنا بسرعة، ومرجعناش تاني وفضلنا نلف بالعربية عشان محدش يتعرضلنا، لحد ما ربنا وفقنا لحد نبات عنده.

تاني يوم بدأنا نعيد الكرة، الصبح مجموعة مستشفيات بعدين من العصر نروح عند المشرحة عسى يكون فيه جديد، تاني يوم كان شبه الأول بالظبط من ناحية الزحمة وطوابير الجثث في الشوارع.

سيارات حفظ الأطعمة لحفظ الجثث

تالت يوم خالتي «والدة محمود» أصرت تيجي معانا، لفينا الصبح كذا مستشفى في وسط البلد بعديها الوجهة المعتادة «المشرحة» ورحنا على المشرحة. في الأول حاولت تدخل أول ما شمت الريحة جوه طلعت بسرعة وهي بتعيط! ومقدرتش تدخل تاني.

اليوم اللي بعد كده «الرابع» لفينا الصبح برضو كذا مكان ورجعنا على المشرحة، اليوم ده خالتي قالت: هدور بنفسي.. وقد كان.

قِدرت إنها تخش وتقلّب في الجثث اللي في التلاجة بنفسها وما إلى ذلك، كانوا وقتها جابوا العربيات الكبيرة اللي بتنقل الخضار بين الدول، الثلاجات دي، وحطوا فيها الجثث عشان تحفظها إلى حد ما، جابوا 3 عربيات، بس الجثث كانت بتتحلل تدريجيًّا والريحة لا يعلمها إلا الله، ومعرفش كنا مستحملنها إزاي، وباقي الناس طبعًا!

خالتي بقت تدخل في وسط العربية وتقلب في الجثث بنفسها مع البكاء طبعًا!

المهم موضوع العربيات ده فضلنا معاه يومين ندور بجانب المستشفيات، ومتابعة إذا كان في جثث جديدة.

جثث بلا أهل وأهل بلا جثث

بعد كده كان اليوم السادس تقريبًا، عملوا في المشرحة فيديو مفصل للجثث مجهولة الهوية.

كنا بنتفرج عليه أنا ومحمد «شقيق محمود» وعمي سعد وبنصوره، كنا بنحلل الجثث أكننا بنتفرج على فيلم وبنشوف هل العضم ده يمشي مع وش محمود أم لا.. منظر لا يمكن أن تتخيله!

كانت كلها جثث محترقة بس منها اللي منفوخ ومنها اللي نص وشه مُتآكل و و و… يااا الله.

وأصبح الحال بقى مقسم إلى أهل بدون جثث وجثث بدون أهل «فيما معناه كان في جثث اتعرفوا عليها فعلًا بس مش لاقين اللي ياخدها، واللي زينا اللي سابوا عينات للــ (DNA) بس ملهمش نصيب يلاقوا الجثث الخاصة بهم»!

صلاة الجنازة عليه في المسجد الأقصى

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل