المحتوى الرئيسى

ريم خيري شلبي: عندما شعر بانتهاء الرحلة قال: جهزوا المقبرة

08/20 10:16

 (أولنا ولد - وثانينا الكومى وثالثنا الورق).. إنها ثلاثية «الأمالى» التى أبدع فى رسم شخصياتها الراحل خيرى شلبى، لقد صنع لنا شخصيات درامية وإنسانية، معجونة بطيبة وشهامة وجدعنة المصرى القديم، حاول فيها عمنا شلبى أن يواجه «خبث» الزمن ومكره، ورغبته فى أن يحولنا من «أخيار» -كما كنا- إلى «أشرار» رغماً عنا!

لقد صنع لنا عالماً من الإبداع، سطر فيه تاريخاً جديداً للزمن، أو بمعنى أدق أراد أن يعيد للزمن - وبالتالى لنا جماله، وبريقه وحضارته وتاريخه، بحثاً عن زمن جميل يليق به.. ويليق بنا، وعندما

وصل إلى ما كان يهدف إليه.. «مات»!

آلو.. مساء الخير يا أفندم؟

- جاء الرد بعد فترة قائلاً: أهلاً وسهلاً؟

- أنا كنت طالب الأستاذ خيرى شلبى حتى يرسل لنا مقاله الأسبوعى، إحنا صحيفة «الوفد»، هل أنا طالب الرقم صح؟

يأتى الصوت وبه حشرجة وصراخات محبوسة راغبة فى الانفجار.. أيوه يا أفندم أنا ابنته.. الأستاذ تعيش إنت!

إزاى.. إمتى.. بتقولى إيه.. ومن تتابع الأسئلة لم أسمع إجابة غير قولها: أنا «ريم» ابنته.. بابا مات من ساعة أو أكثر قليلاً.. الله يرحمه!

كان هذا الاتصال بينى وبين الأستاذة ريم خيرى شلبى صباح يوم الجمعة 9 سبتمبر 2011، وقتها كنت أشرف على صفحة الرأى بالصحيفة، ثم قالت لى «ريم» وهى تكمل اتصالها «بابا» فيما يبدو بعدما انتهى من كتابة المقال، دخل لينام فكان نومه الأخير، مثلما كان مقاله الأخير له فى الحياة! مات وآخر ما ختم به حياته هو الكتابة.. وما أجمله ختام!

وما الكتابة بالنسبة لعمنا خيرى شلبى؟ هى -فيما أتصور- الحياة قبل أن تكون الموت، البداية قبل أن تكون النهاية، الحلم قبل أن يكون الواقع، البشر قبل أن يكون الحجر، كانت فى الآخر والأول.. حياة.. حتى ولو كانت هذه الحياة بين الأموات!

نحن الآن فى منتصف التسعينات، وفى نهار صيف درجة حرارته مرتفعة، أخذ سيارته واتجه إلى مكان أحبه وقرر أن يكتب فيه كلما أراد، المكان هو «المقابر» المواجهة لمنشأة ناصر، طريق الأوتوستراد وصلاح سالم، فى الطريق بين الأموات والأحياء بين المقابر تعطلت به السيارة، نزل وحاول أن «يصلحها»، على الجانبين يجلس بشر -وكأنهم حراس للأصوات- اضطرتهم ظروفهم المعيشية أن يعيشوا فى حضن الموت، حيث صنعوا منه حياة.

استنى يا أستاذ بتعمل إيه؟ اتفضل ارتاح وإحنا هنصلحها، وقد كان، جلس الأستاذ على كرسى خشب قديم، وجاءوا له بالشاى وحجر الشيشة، وبدأ «أولاد الحلال» وما أكثرهم فى هذا المكان، يعالجون الخلل فى السيارة، الحمد لله.. اتفضل يا أستاذ العربية اتصلحت.. منوّرنا، فى هذه اللحظة هؤلاء الناس لا يعرفون من هو هذا الأستاذ.. الذى يأتى كل فترة ليجلس بجوارهم يكتب ويقرأ ويستمع إليهم.. وفى نهاية اليوم يروّح!

مرة بعد مرة.. ويوماً بعد يوم وجد هو ضالته فيهم، وجد الروح المصرية الأصيلة التى كان يبحث عنها، والتى اختفت وسط ضجيج المدينة، وعندما وجدها، أمسك بها، وقرر أن يستأجر حوش ليذهب إليه، يكتب، ويقرأ، ويرسم شخصياته الإبداعية بين الأموات، فعل ذلك وهو يدرك أنه من بين أصوات الموت، تولد حروف الحياة أحياناً!

فى سلسلة «أبى الذى لا يعرفه أحد» اتصلت بالابنة «ريم» وهى كاتبة وشاعرة شربت من بئر «الوتد» أبيها، وتربت فكرياً وإبداعياً على يديه، بترحاب شديد تحدثنا وبسرعة التقينا وبصدق فضفضتك وبكلمات كثيرة استرجعت معى أياماً لا تنسى، وبدموع حبستها فى عينيها، كلما جاءت كلمة «بابا» توشك أن «تفر» من جفونها، أشعرتنى وكأنها تريد أن تقول:

وهيفرق إيه بكرة عن إمبارح؟

فيه قول ساعات مفرح.. وقول جارح.

وليس بعد رحيل الأب شىء « مفرح».. فما بالك عندما يكون «أبوك» خيرى شلبى.. قالت هذا وهى تمسك برواية له، كان قد كتب عليها إهداء لها وهى طفلة صغيرة، ثم أكملت قولها وهى تضغط على حروف الحزن بداخلها «بعد بابا أفرح إزاى؟ ».. عندك حق.

قلت كيف كان خيرى شلبى الأب فى حياة أولاده؟ قالت: كان معلماً دون أن يعلم، كان ناصحاً من غير كلام، كان يجعلنا نبحث عن أنفسنا، حتى نكتشف الحياة، كنا نراه كما يراه جمهوره، هو إنسان واقعى فى الحياة، مثلما كان واقعياً فى الكتابة، كان يكتب مثلما كان يعيش، وكان يعيش مثلما كان يكتب، شخصية واحدة وفكر واحد وحالة واحدة، كنت مثلاً أنا أو أى أخ لى نريد أن نعرف معلومة مثلاً، فكان يرفض أن يقولها لنا مباشرة، لكن كان يدلنى على مكان المعلومة، وفى أى كتاب فنذهب ونأتى بها ونعرفها، بعدها كنا نأخذ منه ما يكمل المعلومة، كان يريد لنا أن نتعب فى المعرفة، ونجتهد فيما تريد الوصول إليه وأنا الحقيقة تعلمت هذا منه، وأعلمه لابنى مثلما تعلمته من أبى.

قلت: هل كانت له طقوس فى القراءة أو الكتابة؟

ردت «ريم»: كان يقرأ أضعاف ما يكتب، كانت القراءة بالنسبة له حياة أخرى، أما الكتابة فكانت بالنسبة له تأتى فى أى وقت، لذلك كانت فى شنطة يده أقلام وأوراق وأى مكان يجلس فيه، وأراد أن يكتب أو أحس بأنه يريد أن يكتب كان يبدأ على الفور حتى ولو كان على المقهى، ومن على المقهى أخذتها معى إلى المقابر.. وقلت لها: ما فلسفته فى الكتابة بين المقابر؟ ردت: ربما الهدوء هو الذى دفعه إلى استئجار «حوش» فى المقابر يذهب إليه، ليكتب، وأعتقد أن حبه للبسطاء هو الذى دفعه إلى هذا الاتجاه.

ولد خيرى شلبى فى 31 يناير 1938، ورحل فى 9 سبتمبر 2011، جاء من قرية «شباس عمير» مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ، وحصل على جوائز الدولة من التشجيعية إلى التقديرية، وحصد العديد من الجوائز العربية عن أعماله الإبداعية، لديه من الأبناء أربعة: زين الدين، إسلام، ريم وإيمان، الزوجة كانت قريبة له من قريته، وعاشت معه رحلة الحياة ورحلة الإبداع وهى تدرك من هو خيرى شلبى، وكان هذا سر من أسرار نجاحه.

عدت لـ«ريم» قلت: كيف كانت الزوجة فى حياته؟

بصراحة كانت هدية من ربنا له، هذه السيدة العظيمة فوزية أنور السنهورى، استطاعت أن توفر له المناخ الأسرى الذى جعله يبدع، تخيل مثلاً أنه لم يكن يريد «خلفة» من الأساس، لكن بعد فترة قال له: لقد جئت لى بأجمل شىء فى حياتى وهو أولادى، فهى لم ترهقه فى التربية ولا التعليم، ولم يسمع صوتاً فى المنزل يجعله يكره الكتابة أو القراءة، كانت حريصة على أن تجعله متفرغاً لإبداعه.

تركت «ريم» وعدت إلى بداياته، وجدته فى حديث تليفزيونى له يقول: أنا اسمى «خيرى عكاشة»، وفى بداية حياتى قمت بتغيير الاسم من خيرى عكاشة إلى خيرى شلبى، وكان السبب فى ذلك اسم الدكتور ثروت عكاشة، حتى لا يقال إننى قريب له، ثم قال: كان السبب «تافه»، لكن غرور الشباب هو الذى دفعنى لذلك.

وهيفرق إيه.. بكرة عن إمبارح.

هكذا كتب الأبنودى ولحن الشريعى، ورسم الشخصيات عمنا خيرى شلبى وتغنى الحجار فى مسلسل «الكومي».. وبمناسبة الأبنودى.. كان عمنا خيرى شلبى -هكذا قالت ريم- طلب الأبنودى والراحل إبراهيم أصلان وقال لهما.. فلنتفق على شراء مقابر لنا تدفن فيها فى القاهرة. واتفقًا سوياً، وبدأ ورحلة البحث عن مقابر. وعندما اقتربوا من تحقيق الرغبة، جاءت 25 يناير، فتحولت الأمور، وتغيرت الأوضاع. وضاعت رغبتهم فى أن يدفنوا معاً بجوار بعضهم بعضاً.. فدفن الراحل إبراهيم أصلان فى مكان، والأبنودى فى الإسماعيلية، وشلبى فى كفر الشيخ. الحياة قربتهم لبعض.. والموت أبعدهم عن بعض.

قلت لـ«ريم»: هل تذكرين يوم رحيله. قالت: كنت فى شقتى بعيد بعض الشىء عن حى المعادى الذى يسكن هو فيه. وفى صباح يوم الجمعة 9 سبتمبر 2011 رن الهاتف. الرقم لأمى يتصل. ترددت فى الرد. خفت. اترجفت. قلت: ماما.. وجدتها تقول: بصحى أبوكى ما بيصحاش.. الحقنى يا ريم. بس خلاص مشفتش آدامى حتى وصلت للبيت. كان حضر قيل منى زين أخى ومن طبيب لآخر.. جاء الرد.. البقاء لله. وكان قرار دفنه فى قريته طبقًا لرغبته أليس كذلك؟ بعد فشل مشروع المقابر الذى كان بينه وبين الأساتذة الأبنودى وأصلان.. بدأ هو قبل رحيله بعام أو اثنين يطلب من «خالي» فى البلد، أن يجهز المقبرة، ونحن كنا فى دهشة من طلبه المتكرر، هذا فكان لا يعبأ بما نقول عن أيه.. يا عمنا.. لسه بدرى.. هتسيبنا وتروح فين؟ فيسكت.. وكأنه يريد أن يقول بالصمت - خلاص الرحلة انتهت. ثم تسكت «ريم» قليلًا وكأنه تتذكر شيئاً ما.. وتقول: أبى كان حاسس أن الموت جاى، فاستعد له. ذات يوم جاء له أحد الكُتاب أو الباحثين من تلاميذه.. وقال له.. تريد أن تكتب لنا رواية عن كذا.. فرد عليه قائلاً: «اكتبوها إنتم بقى.. أنا خلاص قلت اللى عندي»! وأذكر أيضًا أننا كنا نجتمع عنده كل يوم جمعة.. وفى جمعة الرحيل تلك تجمعنا عنده، لكن كان جمعنا هذه المرة لنلقى عليه نظرة الوداع.. بعدها ذهبنا به لقريتنا فى كفر الشيخ.. وكان مقدراً أن تدخل السيارة التى تحمله مباشرة للمقابر دون المرور فى شوارع قريته التى تربى فيها.. وفجأة ودون سبب أخطأ سائق السيارة الطريق فوجدنا أنفسنا بين شوارع قريته التى خرجت كاملة ومعها القرى المجاورة والقيادات الشعبية والتنفيذية، ليكونوا فى وداع الأستاذ.. كما كانوا يحبون أن يطلقوا عليه.

قلت: وكأنه أراد أن يودع أهل قريته، ويسلم هو عليهم سلامه الأخير، قلت: أعتقد ذلك.

قلت له: هل كان يجب جمع الأموال؟ قالت: خالص.. كان فقط يعمل بالقدر الذى يجعله يعيش «مستور».. لم تكن «الفلوس» بالنسبة له تعنى أى شىء. وأذكر أن أى جائزة مالية حصل عليها.. كان يأتى بها للبيت ويقسمها بالتساوى علينا. وهو يأخذ نصيبه بعد القسمة ويقول: «ده رزقكم إنتم.. مش رزقى أنا».

- قلت.. هل كان سعيدًا لوجود بنات بين أولاده؟

قالت: فى الأول كان «زعلان» شوية، لكن بعد فترة أدرك -حسب قوله- أن سر سعادته فى الحياة أنه لديه بنات. وأبى تغيرت حياته تماماً، بعد وجودنا فى حياته. بدأ لا يفعل شيئاً ولا يجلس فى مكان ولا يخرج إلى طريق إلا إذا وجد أن هذا فيه فائدة لأولاده بصورة أو بأخرى.

- قلت هل فرض على أحد من أبنائه نوعية دراسية أو عملاً كان يريدها هو؟ قالت: لا.. ترك لنا حرية اختيار الدراسة وحرية اختيار العمل. وفى ظل هذه الحرية اتجهنا جميعًا إلى الكتابة والإذاعة والصحافة والفن، زين صحفى، وإسلام مخرج، وإيمان مخرجة، وأنا كاتبة.. وكل ذلك حدث دون تخطيط منا أو توجيه منه. وهو كان رأيه دائمًا أن الموهبة هى التى تفرض نفسها، فإن كانت لذلك موهبة حقيقية، فالمؤكد أنك ستنجح. وإذا لم تكن، فلا تبحث عليها.

«اسمع يا ولد.. من لا يعجبه العيش مع الحاجة فاطمة تعلبة، فليرحل هو، فليخرج من الباب بطوله» ثم تكمل فاطمة تعلبة قولها: «أنا الذى ربيت، وأنا الذى زوجت، وأنا الذى أكسو وأطعم، والأولاد أولاد الدار، قبل أن يكونوا أولاد أحد منكم.. كانت هذه كلمات خيرى شلبى فى رائعته «الوتد»، التى تحولت إلى عمل درامى فى ذائعة الصيت. أنصف فيه المرأة المصرية، وجعلها «الوتد» الذى يسند الحياة الاجتماعية فى ريف مصر، ليخرج منها بشر منسية، صنعت تاريخاً عائلياً ضارباً بجذوره، فى أعماق الريف.

قلت لريم: «هل كانت والدتك فى البيت» وتد، مثل فاطمة تعلبة؟ ضحكت وقالت: لا.. الوتد كان هو خيرى شلبى مع اختلاف التفاصيل. أعتقد أن تلك الشخصية كانت تعيش فى وجدان أبى من الصغر، فهو تربى فى الريف، وعايش نماذج، مثل فاطمة تعلبة، لذلك هو رسم الشخصية بكل دقة وبراعة وصدق. أما والدتى فى البيت، الست العظيمة فوزية السنهورى.. فكانت لديها قانون واحد فى الحياة. وهو أن توفر لهذا الرجل الجو المناسب للإبداع. كان هو كل شىء فى حياتها.. العين التى ترى والأذن التى تسمع. قلت لها: ذات يوم زرت الأستاذ لإجراء حوار معه.. جلسنا وبعد دقائق.. دخلت علينا السيدة فوزية. وقالت: تشرب إيه با ابنى. قلت شاى. قالت: أجيبلك قهوتك يا أستاذ. رد: يا ريت يا حاجة كتر خيرك.. هذا الحوار الذى دار أمامى.. يدل على أنها كانت تدرك بالفطرة - من هو خيرى شلبى، وما هو الإبداع الذى يقدمه للناس والحياة.

عدت إلى «ريم» وقلت له: هل مات وهو راضٍ عن حياته وعما قدمه فيها؟ قالت: طبعاً.. أبى كان أكثر إنسان عرفته فى الحياة عاش حاسس إنه أخذ ما يستحقه. كان راضيًا بما حصل عليه، وبما وصل إليه.. وبما ضعت يديه، كان يأتى من يقول: لم تأخذ حقك؟ فيرد.. أكثر من كده إيه؟ تانى. الحمد لله.. أنا أخذت حقى وزيادة.

هذا هو خيرى شلبى.. وهذه هى حياته وقناعاته وتاريخه، وأفكاره، وأيامه. تلك الأيام التى ترجم فيها أحلام البسطاء، ولم يتاجر بها. نقل أوجاعهم ولم يرقص عليها. عاش راضياً.. ومات راضياً.. مثلما عاش مبدعاً.. ومات مبدعاً..

- آه يا زمن يا صاحبى يا عدوى

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل