المحتوى الرئيسى

بين شقَّي رحى ذهان ما بعد الولادة

08/20 05:01

لم أكن أرغب بذلك الحمل لأسباب عدة، على رأسها تكرار اعتقال زوجي وقضاؤه فترات تقصر أحياناً وتطول في أغلب الأحيان في الأسر، مما كان يؤثر على الأسرة بالكامل ويعرضني لضغوط كبيرة، بدءاً من اختلال الوضع المادي إلى صعوبة متابعة ورعاية الأطفال الثلاثة الذين لم يتجاوز أكبرهم السادسة من عمره..

كان حملاً صعباً وقاسياً بجميع المقاييس، عانيت خلاله الأمرَّين، فلم يكن فقر الدم الذي لازمني طوال حملي هو المشكلة الأولى، كما لم يكن ارتفاع ضغط الدم المرتبط بالحمل الذي ظهر لديَّ في منتصف الشهر السابع هو المشكلة الأخيرة، ناهيك عن اضطراري مرتين كل شهر إلى أن أخرج في رحلة العذاب التي تبدأ من الساعة الخامسة صباحاً وتنتهي الساعة الثامنة ليلاً لزيارة زوجي في سجن "هاداريم" والحديث معه من خلف زجاج سميك عبر هاتف يوصل بيننا.

وبلغت الشدائد قمتها مع قدوم المخاض الذي طال عليَّ فأنهكني دون أن يحدث تقدم يُذكر، واقتربت ساعة الولادة، وأصبح وضعي الصحي في دائرة الخطر، ما حدا بالطبيب إلى إجراء عملية قيصرية بعد أن أصبحت على مرمى حجر من الولادة الطبيعية.. فعانيت آلام المخاض وملحقاته، وآلام العملية القيصرية ومضاعفاتها.

خرجت من المشفى أضم وليدي، وحيدة، وحزينة، ومنهكة، وخائرة القوى.. وبدلاً من أن أعود إلى بيتي فأخلد للهدوء والراحة، وأتغذى جيداً وأرضع وليدي كما تفعل النساء عادة، إذا بمنسوب التوتر يرتفع داخلي مع استمرار بكاء طفلي الجائع الذي أبي الحليب أن يسكن ثديي ويملأ معدته على أثر ذلك، والنوم يهجر مقلتي، وأغدو مشوشة جداً، ومكتئبة، وفاقدة لأي شهية للطعام، وكثيرة البكاء والحزن.

ومع مضي الأسبوع الأول، أغرقتني الأحزان، ووجدت نفسي أغوص في وساوس قهرية، أخذت تطرق رأسي غصباً عني: زوجي لا يحبني، وإلا لماذا تركني أعاني وحدي؟، أنا لا أصلح أن أكون أُماً، وإلا لملأ الحليب ثديي.. من قال إنني أرغب بطفل آخر؟ الأطفال عبء على مَن هن في مثل ظروفي.. فلا ضير إن مات هذا الصغير إذن، سيكون ذلك أفضل لي وله، سيتخلص هو من هذه الدنيا القاسية، وأنا أتخلص من عبء إضافي لحق بي.. كم أتمنى لو أن أمي خنقتني وأنا في اللفة، لما كنت عانيت ما أعاني الآن.. لا بد أن هذا الطفل الصغير مصاب بمرض ما، فهو لا يكف عن البكاء، فإما أن يكون نائماً، وإما أن يكون مستيقظاً باكياً بكل ما لديه من قوة.. الموت أفضل لهذا الشقي.

أخذت أترك طفلي الرضيع يبكي لأوقات طويلة حتى يصيبه الإجهاد وينام.. وغلبني الشعور بأنني أكرهه؛ لأن قدومه للدنيا أضاف جرعة كبيرة من الألم لنفسي التعيسة المعذبة.. كما أخذت أضيق ذرعاً بحياتي، فأفكار كثيرة سوداء أصبحت تراودني وتضغط عليَّ بأن أتخلص من نفسي، لماذا مثلاً لا أشعل النار في البيت، فأنهي معاناتي وأريح أولادي من الشعور بمرارة اليتم؟ هذا حل جيد لجميع مشاكلي.

وأعود لأقول لنفسي: ما ذنب بقية الأطفال.. الأفضل هو أن أتخلص من الرضيع؛ لأنه مريض ولا يهدأ. أخذت أهمل العناية به، وبعد شهر من إنجابه حاولت إغراقه في ماء الحمام الذي كنت أغسله فيه، ولكن صراخ بقية أطفالي حولي من شدة خوفهم على الصغير جعلني أتراجع عما بادرت إلى عمله.

لم يكن حولي أحد لينتبه إلى ما أنا فيه من عذاب.. فأنا وزوجي نعيش وحيدين في فلسطين، أما أهلي وأهل زوجي يقيمون في الأردن ولا يستطيعون زيارتنا، وزوجي يقبع في معتقل مجدو بعيداً عني.

بعد شهرين من ولادتي، اتصلت الممرضة من قسم رعاية الأمومة والطفولة بي، وطلبت مني الحضور للعيادة للضرورة.. تعذرت بأعذار كثيرة، ولم أذهب.. وبعد يومين، إذا بها تأتي بنفسها لزيارتي والاطمئنان على الرضيع.. صُدِمت عندما شاهدت علامات سوء التغذية تبدو عليه وعليَّ أنا أيضاً، وساورتها الشكوك عندما شاهدت الفوضى التي تسيطر على البيت.. أخذت تسألني أسئلة كثيرة وأنا أجيبها من غير تركيز إجابات عشوائية بعيدة عن المنطق.

أصرت على أن أصحبها للعيادة، وهناك حولتني لطبيب الأمراض النفسية.. وبعد جلسة طويلة من الحوار والتحليل النفسي، شخصني على أنني مصابة بذهان ما بعد الولادة (أو ذهان النفاس كما يسمونه أيضاً).. وصف لي علاجاً وأوصى بضرورة وجود أناس داعمين إلى جانبي.. أوصلت الممرضة خبر مرضي لزوجي المعتقل.. فأرسل لصديق له يطلب منه ترتيب أموري ومساعدتي للسفر عند أهلي في الأردن.

وصلت لأهلي.. وكنت في وضع صحي ونفسي يُرثى له.. تولوا هم رعاية صغاري، وأخذوا يصحبونني لجلسات العلاج النفسي، ويحرصون على إعطائي الأدوية المضادة للاكتئاب كما وصفها الطبيب، بالإضافة إلى إحاطة أهلي وأهل زوجي بي، ودعم الجميع لي، ساعدني ذلك في الخروج من الحالة التي كنت فيها بعد عدة أشهر من المعاناة.. التي أقيِّمها بأنها من أكثر الأخطار التي هددت وجودي ووجود أطفالي حتى الآن، وكادت رحى ذهان النفاس تمزق رضيعي بين شقَّيها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل