المحتوى الرئيسى

أزمة العزلة فى عصر العولمة | المصري اليوم

08/20 00:45

خبر قصير وتقرير مفصل لفتا أنظارى خلال الأسبوع الماضى.. أعتقد أنهما يعكسان تطورات مهمة تنذر بزعزعة الأوضاع المستقرة نسبيا التى سادت العالم منذ نهاية الحرب العالمية.. الخبر يبدو بريئا ومبشرا بخير، فيتعلق بعزم شركة فورد إنتاج وتسويق سيارة تسير دون سائق (أو حتى عجلة قيادة) خلال خمس سنوات، فى سبيل استخدامها بصورة واسعة النطاق كسيارات أجرة (يحضرها ويحدد مسارها المستخدم إلكترونيا كما يفعل مع عربات «أوبر»، لكن دون الحاجة لسائق).

كانت شركة فورد، فى سنة 1908، أول مَن أنتج سيارة فى متناول يد العامة، والملقبة «موديل تى». وكان من ضمن أسباب نجاحها ثمنها المنخفض، نتيجة عملية الصناعة عالية الميكنة. انتشار السيارات فى الولايات المتحدة كان من ضمن صور «الحلم الأمريكى»، بما تضمن من مظاهر التنقل الحر ورفاهية المعيشة فى بيوت منعزلة بضواحٍ خضراء خارج نطاق تكدس المدينة. لكن، فى نفس الوقت، أدت الهجرة الجماعية نحو الضواحى إلى تفريغ الكثير من المدن الأمريكية من روحها، فتحولت إلى مجموعة من الضواحى المترامية و«الكومباوندز» المترابطة بشبكة طرق جبارة، مع وسط مدينة مشوه، بل إن مركز مدينة ديترويت، عاصمة صناعة السيارات، تخللته أحياء كاملة شبه خالية تماما من أى حياة.

هكذا صارت المدن رمزا للعزلة المتزايدة للفرد فى العصر الحديث بدلا من مجال للتواصل. العزلة والاغتراب يجتاحان قطاعات أوسع من مجتمعات العالم الصناعى نتيجة تطورات تقنية واقتصادية، واستمرار تفاقم الظاهرة قد تكون له تداعيات صعبة.

تزامن تهالك المدن الأمريكية مع ازدياد نسبة الميكنة فى الصناعة، والتى بدأت مع «فورد مودل تى»، ومع عملية العولمة التى أدت إلى انتشار البطالة والفقر فى أوساط الطبقات العاملة نتيجة المنافسة العالمية والتجارة الحرة (خاصة مع دول شرق آسيا).. أما فى السنين القليلة الأخيرة فقد شهد وسط المدينة الأمريكى نوعا من الانتعاش، نتيجة الهجرة العكسية لجيل جديد، مكون من فئات انتفعت من عملية العولمة نفسها، من جيل صاعد، عالى التعليم والدخل المادى ولديه علاقات عمل وصداقة متشابكة واسعة النطاق بالعالم الخارجى، ولذلك يريد العيش فى وسط مدينة حى ومتحرك وثرى ثقافيا كما يفعل نظيره فى المدن الأوروبية والآسيوية.

هؤلاء هم مَن سيستخدمون سيارات «الأوبر الأوتوماتيكى» التى تنوى شركة فورد إنتاجها. لكن لكل واحد من هؤلاء سيكون هناك سائق فاقد للعمل وعامل فى مصنع عتيق تم الاستغناء عنه نتيجة التطور التكنولوجى. بل من الجدير بالذكر أن الإعلان عن العربة الجديدة لم يأتِ من مدينة ديترويت الصناعية التقليدية ولكن من وادى سيليكون، حيث تتمركز شركات تكنولوجيا الحواسب والبرمجيات. وفى هذا الوادى يتواجد ربما أكبر تكدس للفئة متعددة الجنسيات، التى استفادت من انفتاح العالم لمَن هو مؤهل للتعامل مع تحديات العولمة.

ولكن فى مقابل كل عالِم برمجيات أو مدير أعمال يتحرك فى عالَم مُعَوْلَم بسهولة، ويتعامل مع إجراءات السفر المميكنة إلكترونيا فى مطارات العالم الصناعى بسلاسة وبديهة، هناك مَن يركب القوارب البدائية للهرب من جحيم دول فاشلة.. وفى مقابل كل ابن لمهاجرين ناجحين مثل «راج ناير»، مدير القطاع التكنولوجى لشركة فورد، هناك آخر يشعر بالعزلة والتهميش وفقدان المعنى، وبالتالى صار فريسة مناسبة لمَن يبيع المعانى الوجودية فى عصر الإرهاب.. وهناك عامل فى مدينة يتخللها حَمار المصانع التى أصابها الصدأ، يعتقد أن وضعه البائس جاء نتيجة الهجرة والعولمة.. وفى عالَم بات ميكانيكيا وباردا، تسوده القسوة والانسلاخ وأخطار الإفلاس والإرهاب، يجد المعنى فى دفء التكاتف مع هو من نوعه لمواجهة الآخر، فينجذب للحركات والشخصيات الشعبوية والعنصرية التى تعرض هذا النوع من «المعانى».

هذه ظاهرة مخيفة تجتاح الغرب بأكمله. أما بالنسبة لبلد مثل مصر، فعملية العولمة تفرض نتائج العلم والمعرفة العقلانية على مجتمع يفتقر لها شكلا ومضمونا، من أول عجزه المزمن عن تنظيم المرور فى كبرى مدنه، وحتى عدم القدرة على أى إنتاج معرفى، تندرج عنه منافسة فى السوق العالمية تحميه من الإفلاس الناتج عن استيراده نتائج المعرفة، مع عدم القدرة على إنتاجها (أو حتى عامة تقديرها).

ولكل عائلة عازلة لنفسها فى «كومباوند» فاخر فى ضواحٍ قاهرية مترامية على النموذج الأمريكى، وراكبة لـ«الأوبر»، ومتعاملة هى الأخرى بسلاسة مع مطارات العالم المميكنة، هناك شاب ساكن بالصعيد المصرى فى قرية رمادية تسودها أتربة التهالك، وسط الخراب الذى يفرضه التطور التقنى على بلد لا يستوعبه.. ربما يسكن هذا الشاب بجانب «ترعة مياه امتلأت بكل مخلفات البيوت والحقول المجاورة»، على حد تعبير تقرير مطول نشرته جريدة الأهرام، الأسبوع الماضى، تحت عنوان: «فى قرى الفتنة بالمنيا المتشددون يصنعون الفتنة والفقراء يدفعون الثمن».. يسكن رمزيا وسط مخلفات الحداثة الممسوخة، التى لا تغنى عن فقدان مقومات عالم أجداده التقليدى والعزلة الناتجة عن ذلك.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل