المحتوى الرئيسى

حكايات الكفاح المسلح للمرأة المصرية

08/19 14:47

التاريخ مُتعتى. أنبشه بعقلى قبل أظافرى لأقرأ ما لم يُقرأ واستبين ما لم يُكتب وأرسم ظِلالاً لحيوات ووقائع مُثيرة. ولا شك أن قراءة مختلف جوانب تاريخ المرأة المصرية أمر بالغ الصعوبة فى ظل قلة مصادر ومحدودية الشهادات وندرة الوثائق، لكن سحب خيوط بعض الحوادث وإعادة استنطاق بعض الشهادات يفتح نوافذ جديدة على وقائع أُهملت وسقطت من ذاكرة الوطن.

ولاشك أن تاريخ الكفاح المُسلح للمرأة المصرية فى العصر الحديث لم يُكتب بعد، خاصة أن هُناك فدائيات مُحترفات شاركن فى حمل السلاح واقتربن من الخطر فى وقائع عديدة كانت كُلها فى سبيل الوطن.

ولأن الحضارة أنثى كما يقول نزار قبانى فإن أى ثورة لا تفلح متى غاب نساؤها، وأن أى تحرر لا يصح متى أهمل المرأة، والتاريخ خير شاهد وحكم.

وإذا كان تاريخ المرأة المصرية لم يُقدم لنا نماذج مُقاتلات واضحة مثل جميلة بوحريد الجزائرية، أو جان دارك الفرنسية فإن ذلك مرده أن أحداً لم يُفتش جنبات التاريخ كما ينبغى بحثاً عنهن.

إن كثيراً من الناس يجهلون كيف تحولت بعض المصريات إلى مقاتلات محترفات من أجل الوطن، يُدبرن ويُخططن ويشاركن ويتعرضن للموت والتعذيب فى سبيل الحرية والاستقلال خاصة خلال عهد الاحتلال البريطانى على مصر (1882ـ1954).

من البدايات كانت المرأة فاعلة ومُشاركة وتكشف لنا سير الجمعيات السرية التى ناهضت الاحتلال البريطانى وقاومته خلال الفترة من 1910 وحتى 1922 كيف كانت النساء عاملاً رئيسياً فى تنفيذ كثير من عمليات الاغتيال والقتل الموجه لجنود الاحتلال ورجالهم.

 وبعيداً عن الدور السياسى الذى لعبته نساء رائدات فى مجال تحرير المرأة وخروجها إلى الحياة العامة مثل هُدى شعراوى ومنيرة ثابت وغيرهن، فإن شهادات عديدة تورد أدواراً مُبكرة لنساء مجهولات لم تصلنا أسماؤهن، لكن وصلتنا بعض أفعالهن عبر شهادات مُتفرقات. يحكى حسن كامل الشيشينى وهو أحد كوادر الجمعيات السرية ضد الاحتلال البريطانى فى الربع الأول من القرن العشرين للكاتب الراحل صبرى أبو المجد (مجلة المصور ملف الأحياء يتكلمون ــ50 عاماً على ثورة 1919ــ مارس 1969) عن زوجة الحاج أحمد جاد الله، وهو أحد أنشط القتلة الوطنيين والذى حُكم عليه بالإعدام كيف كانت امرأة صلبة، قوية الإرادة، رابطة الجأش تبتسم فى ظل العواصف وتجاهد دون أدنى خوف حتى لحظة إعدام زوجها.

 إن الشاهد لا يقدم لنا اسم هذه المرأة ولا وصفها، وفى الغالب لم يكن لأحد أن يعرف وصفها لأن وجهها كان مستوراً خلف البرقع، لكنه يُخبرنا بأن هذه السيدة كانت محل اعتماد الحاج أحمد جاد الله فى نقل الأسلحة من مكان إلى آخر، وتسليم القنابل، وإخفائها. ولا شك أن تلك السيدة كانت شريكة لزوجها فى عمليات الاغتيال التى نفذها ضد ضباط إنجليز وموظفين ومُستخدمين فى جيش الاحتلال. وكانت تلك الفدائية تجلس ومعها سلة سميط وتُنادى على السميط حتى إذا وصل إليها أحد الفدائيين وأبلغها كلمة السر منحته مُسدسات مُخفاة تحت السميط.

إن نفس الشاهد حسن الشيشينى والذى حُكم عليه بالأشغال المؤبدة فى قضية التنظيم السرى يحكى لنا أن الفدائى محمود إسماعيل عندما تزوج سعى لاختبار زوجته فدخل عليها وعلى ملابسه بقعة دماء وقال لها إنها دماء جُندى بريطانى قاموا بقتله، وإنه وأصدقاءه لا يعرفون كيف يتخلصون من الجُثة، ففوجئ بها تضع له خطة لإخفاء الجثة تماماً، وهو ما يعنى أن زوجات الفدائيين كن مُشاركات مشاركة كاملة فى الثورة المسلحة.

وتحكى هدية بركات حرم بهى الدين بركات أنها عملت بأسيوط مع فكرية حُسنى فى توزيع المنشورات ضد الإنجليز خلال أحداث ثورة 1919، وكانت تُخفى المنشورات فى سلال الخُضر والفاكهة وتركب قطار الصعيد القشاش الذى يقف فى كل محطة، وكانت فكرية حسنى تكلف مفتشات وزارة المعارف بانتظارها فى كل محطة لتتسلم كل واحدة حصة مدينتها من المنشورات، وبتلك الطريقة أمكن نقل تعليمات وخطط وتكليفات من القاهرة عبر أنحاء الصعيد.

ولم يقتصر الأمر على الزوجات، فتحكى مثلاً علية صدقى وهى ابنة أحد ضباط الجيش المصرى أن شقيقها كان ممن يقومون بتهريب الأسلحة، وكان يحضر مساء إلى المنزل ومعه أسلحة خفيفة ويقوم بتسليمها لها ولوالدتها فى حديقة المنزل لتقوما بدفنها فى الحديقة. واللطيف أن حسن كامل مأمور قسم سراى القبة كان يُخبرهم عن طريق عسكرى إشارة قبل أى عملية تفتيش لمنازل المنطقة حتى يقوموا بإخفاء الأسلحة فى مكان آخر، وإذا ما جاء كان يصيح فى العساكر ليفتشوا المنزل جيداً.

ومن المعروف أن نساء كثيرات دفعن حياتهن ثمناً للمشاركة فى الثورة، ومُنهن مثلاً شفيقة محمد التى ذكر المنشور رقم 592 لثورة 1919 فى يوم 10 أبريل أنها أول شهيدة، وهى أرملة تبلغ من العمر 28 سنة ومحل سكنها الخرطة القديمة بالخليفة وقد قتلت برصاصة فى البطن.

لقد كانت المصريات مُتحفزات ومُختلطات بالخطر والفداء فى ثورة واقعية حملت السلاح ضد الاحتلال البغيض. ومن المؤسف أن يتناول بعض الباحثين المعاصرين ثورة 1919 باعتبارها ثورة سلمية، مُتصورين أن وصمها بالثورة المسلحة يقلل من عظمتها، وهو على أى حال ليس موضوعنا.

وقد تواصل الكفاح السرى للمرأة المصرية خلال الحقبات التالية وبرزت ضمن خلايا التنظيمات السرية أكثر من سيدة ربما أشهرن السيدة حكمت فهمى التى كانت راقصة سافرت إلى أوروبا خلال بداية الأربعينيات من القرن الماضى، وتعرفت بمسئولين فى المخابرات الألمانية لتعمل فى إطار الاستفادة من الألمان ضد الاحتلال الإنجليزى، ولعبت بالفعل دوراً فى عقد الاتصال بين بعض ضباط الجيش المصرى وعلى رأسهم عزيز باشا المصرى والسلطات الألمانية، وقد اكتشفت السلطات البريطانية دورها وتم القبض عليها وظلت فى السجن لنحو ثلاثة أعوام رغم عدم ثبوت التهمة عليها. وقد تحدث الرئيس الراحل أنور السادات فى كتابه «البحث عن الذات» عن الدور الوطنى الذى لعبته حكمت فهمى مُعترفاً بدوافعها الوطنية النبيلة.

ويبدو أن جانباً آخر فى العمل السرى قد أشرفت عليه سيدة أخرى عرفت بقوة نفوذها وهى السيدة ناهد رشاد، والتى قيل إنها كانت عضواً مؤثراً فى جهاز الاغتيالات الخاص بالملك فاروق والذى عُرف باسم الحرس الحديدى.

ولاشك أن سيرة الراقصة تحية كاريوكا تضُم جانباً مُهماً فى قصص العمل المسلح، خاصة أنها تزوجت فى مرحلة من مراحل حياتها بالضابط المتطرف مُصطفى كمال صدقى الذى نفّذ كثيراً من عمليات الاغتيال السياسى ضد الإنجليز وضد بعض الساسة والضباط والخصوم، والمثير أن زواجهما كان سبباً فى دخولها السجن والتحقيق معها، إلا أنها لم تتحدث قط عن تفاصيل دورها، وإن كان البعض أشار لعلاقات ربطتها بحركة الفدائيين فى القناة، منهم زميلنا الكاتب سليمان الحكيم فى كتابه «تحية كاريوكا بين الرقص والسياسة»، حيث يورد قصة مفادها بأنها قدمت نفسها كمتطوعة للمشاركة فى قوات الفدائيين وطلب منها وجية أباظة نقل أسلحة وطوربيد إلى الإسماعيلية ونفذت المهمة بنجاح.

ورُبما لا يعرف الناس أن النســــاء المصــــريات حمــــلن السلاح وشاركن فى حرب الفدائيين التى بدأت عــــام 1950 ضد قوات الاحتلال البريطانى فى منطقــــة القناة. وقد روت مجلة الاثنين فى عددها رقم 858 الصادر 20 نوفمبر 1950 قصة كتـــائب بنت النيــــل والتى تبنتها الدكتورة درية شفيق. لقد كونت درية شفيق أول كتيبة نسائية وطلبت من ضباط الجــــيش المصرى المتقاعدين تدريب نســاء الكتيبة على حمل السلاح للمشــــاركة فى معارك تحرير البلاد وبالفعل تقدم ضــــابط عمل فى حرب فلسطين ومعه جاويش وصف ضابط لتدريب الكتيبــــة التى تألفت من ستين متطوعة، واستمرت عملية التـــدريب لنحــــو شهرين قال بعدها الضابط للصحف إنهن على اســــتعداد كامل وتام للمشاركة فى المعارك تماماً كالرجــــال. ووصفت مجلة «الاثنين» ملابس المتطوعات فقالت إنها تكونت من بذلة زيتية وحذاء مستوٍ وقايش وجـــــاكيت كحلى مُحلى بشارة بنت النيــــل. وعلقـــــت المجــــلة على ذلك بأن «من يرى وجوه الفتيات المصريات وهُن يقبضن بأيديهن على السلاح يرى عزيمة ماضية وإرادة قوية تنعكس فى وضوح وجلاء رغبات وادى النيل كله».

وفى نفس المجلة تم تنظيم ندوة الأسبوع تحت عنوان «كيف تساهم المرأة فى طرد الإنجليز؟ «شاركت فيها بعض سيدات المجتمع وتم الاتفاق على ضرورة جمع التبرعات لكتائب الفدائيين والفدائيات. وقالت نعيمة هانم المصرى إن على المرأة المشاركة بشكل مباشر فى المعارك جنباً إلى جنب مع المجاهدين فى القنال.

وقد قبض على عدد من سيدات كتائب النيل وتم تقديمهن إلى المحاكمة، وكان على رأسهن مؤسسة الكتائب الدكتورة درية شفيق والتى حولت تلك الكتائب لاحقاً إلى حزب سياسى لم يُكتب له البقاء. 

والمؤسف فى أن السيدة التى تبنت إنشاء تلك الكتائب وهى الدكتورة درية شفيق والتى كانت واحدة من رائدات تحرير المرأة فى مصر وقد ناضلت بعد ذلك لمنح النساء حق الانتخاب سنة 1956 لكنها تعرضت للاضطهاد والعزلة، وفيما بعد سقطت من منزلها بالزمالك وقيل إنها انتحرت.

Comments

عاجل