من "إيلان الكردي" إلى "عمران قديش".. أطفال سوريا يسددون فاتورة الصراع العالمي على أرض الشام: "يا موطني عذرًا لكل ذل وهوان"
مُنذ ذلك التاريخ الأسود للثورة المشئومة، وهم مُشردون في الأرض، مُهددون بالعِرض، يعانون من قسوة الزمان، فقد ضاعت الأوطاون.. يمشون في بلادهم ونظراتهم تنطق بالخوف: "يا موطني عذرًا لكل ذل وهوان"، فهذا طفل أمسى بلا دار أو عنوان، فكل ما تبقى معه كأسًا من الآلام والأحزان، يتجرعه كل صغير في ذلك الوطن، بات يصحو على صوت المدافع والرشاشات ويمسي تحت الأنقاض.
هم أطفال الوطن الضائع سوريا، الذي تحول إلى كتلة من الصراع المُشتعل، بعدما مر الربيع العربي عليه خريفًا، كُلًا يُغني على ليلاه، فالمُعارضة اشعلتها صراعًا داميًا منذ ستة أعوام، والسلطة مُتمكسة بالحكم، فباتت كل الطرق في الشام تؤدي إلى الموت، ولعبت الأقدار بدمشق الخضراء، وسدد فاتورة طمع الحُكام أطفال صغار، فُتِحت أعينهم على ذلك المشهد الدامي الذي يشيب له شعر الولدان.
في دقائق معدودة، وجد نفسه وسط مئات الجثث، على يمينه أشلاء، ومن يساره تحده الدماء، وتحيطه أحجار داره المتراكمة، تقهقر جسده إلى الخلف في ركن صغير لعل القصف يغشى عنه، ظل يصرخ لثلاث ساعات متواصلة مُستغيثًا: "وينك يا أمي؟ بدي تديري بالك عليّ"، لا أحد يسمعه فقد فر المرء من أبيه فهي أهوال تشبه يوم القيامة، لكي ينهي ذاك المشهد الدامي علّه يكون كابوسًا يستيقظ منه قريبًا سقط مغشيًا عليه.
مُصدومًا ومُصابًا طل الطفل السوري "عمر دقنيش" على العالم، بعدما قُصف منزله عنوة داخل حي "قاطرجي" بمدينة حلب الضائعة، فقد مات الأب ورحلت الأم وشُرد الأخوة، تلتقطه عدسات المصورين بالأضواء، وتعول عليه الأقلام بعبارات الآسى، وتُقام لأجله المُباحثات بكلمات إدانة لا تمثن ولن تغني من جوع.
حكى "قنديش" ما حدث لمنزله وعائلته الصغيرة، بملامح غير مُصَدقة من هول الصدمة، يغطيها الدماء مُختلطة بالأتربة، جالسًا على كرسي صغيرًا ينتظر المساعدات الطبية لتطيب جراح وجهه، التي أصابته بعد انتشاله من تحت الأنقاض، فأما جراح القلب فهي شهادة جديدة على الجرائم التي تحدث بحق الشعب السوري.
ينظر "عمران" إلى الكاميرا التي تنقل مأساته إلى العالم أجمع، ليُضاف إلى سجل الجرائم السورية، فهم أكثر من مليون سوري صامودن أمام وجوه الطغيان وصور الإرهاب، فهو شهادة أخرى على الملحمة التي تسطرها حلب في وجه الجميع.
صغير آخر مُلقى على وجهه، يرتدي كامل ملابسه وحذائه الصغير، قذفته الأمواج إلى إحد شواطئ تركيا، ظل هكذا لساعات طوال مُنتظرًا يد الرحمة التي تنقله إلى مثواه الأخير، هو "إيلان الكردي"، طفل سوريا الذي لم يتعد الثلاثة سنوات، وتعاطف معه العالم فيما سبق وسريعًا تنساه.
مات غريقًا وسط اثنا عشر مهاجرًا سوريا؛ بعدما غرقت مركبة عائلته التي كانت تنقله من "بودروم" جنوب غرب تركيا إلى جزيرة "كوس" اليونانية، فهو واحد من اللاجئين الهاربين من الحرب في سوريا عبر البحر مُتجهين إلى أوروبا، صعد مع أبيه وأمه وسار ركبهم في البحر وغرقوا جميعًا بالكامل مع ثلاثة من إخواته.
سقط "الكردي" وتطلامته الأمواج بعدما غرق المركب في البحر، يعافر بكلتا يديه الصغيرتين لينجو من الغرق، يطلق الصرخات فتملأ المياه جوفه، يتمسك بالحياة فتسحبه قوة المياه إلى أسفل، جسده يمتلىء بها شيئًا فشيئًا ومع كل شبر من المياه يحلم بذكريات وطنه الهادىء الذي صغرت صورته أمام عينيه، حتى سكنت حركته على شواطىء تركيا.
عاش يتيمًا بعدنا قضى والداه نحبهما في قصف وحشي بطائرات لا نعرف انتماءها في سوريا، أضحى من بعدهما الطفل السوري "وسيم زكور" يتميًا مُشردًا في الأرض، لم يجد تحت الركام سوى حذاء والده
وكيسًا يجمع فيه فتات الخبز، حتى مات جوعًا.
جسد "زكور" مأساة ليست بجديدة على العالم في سوريا، بعدما تناقل الجميع صورته، وهو مُسجى على الأرض وعظامه بارزة بدون لحم يغلفها بعدما قرصه الجوع حتى الموت، وتقبض يديه بقوة على كيس الخبز الصغير الذي لم يكن طوقًا للنجاة.
كانت من المشردين الذين خرجوا من بلادهم قهرًا وظلمًا، صورتها كتبت سطرًا جديدًا في تاريخ معاناة الشعب السوري تحت القصف، فهي طفلة سورية لم تقترف ذنب، ولم تكن من الخطائين، لكنها دفعت فاتورة الوطن المنكوب كأي طفل سوري آخر.
صورتها وهي تجوب شوارع العاصمة الأردنية عمان لتبيع علكة، تارة محاذية الأرصفة، ومرات تساير الزحام، ورغم الأتربة التي عفت على وجهها وآثر الدماء التي لوثت ملابسها، ألا أنها آثرت الجميع بجمالها وعمق عينيها فكانت أشبه بـ"موناليزا"، فلا يزال في عيونها الوطن على شكل دموع، ولا تزال آمالها معلقة بحلم العودة إلى وطنها على أمل أن تعود سوريا كما كانت عروس الشام.
منذ ثلاث سنوات مضت، طل على العام الطفل السوري"فادي" وهو يذرف الدموع، تحيطه لفافات القطن التي تغطي وجهه بالكامل، بعدما استقرت إحد شظايا الحرب في رأسه تألمه، بسب القاذفات التي تلقى يوميًا بطريقة عشوائية على منازل سوريا المُتألمة.
Comments