المحتوى الرئيسى

بيوت المبدعين فى الخارج متاحف مفتوحة وفى مصر مقالب قمامة

08/18 13:21

ربما تمثل بعض منازل كبار المبدعين لبعض المسئولين عندنا، مجرد جدران وحوائط اتت عليها عوامل التعرية، لكن هذه المنازل إذا كانت قد أنهكتها عوامل التعرية، فإنها فى المقابل قامت بتعرية كل من جاء على رأس وزارة الثقافة والآثار، لأنه أهمل مكانًا شهد ميلاد كثير من حلقات الابداع المصرى، فهذه الجدران والحجارة المتآكلة والمتهالكة شاهدة على كل نغمة وكلمة خرجت من فكر المبدع الحقيقى الذى جاع أو عطش، وعاش الحر والبرد من أجل أن يقدم لهذا الوطن عملًا يليق بوطن احتضن الجميع من المشرق والمغرب، وطن يمتلك حضارة تعود إلى آلاف السنين.

كل منزل من منازل المبدعين فى مصر يمثل ادانة صريحة وواضحة ليس ضد المسئول الموجود على مقعد المسئولية، لكن ضدنا جميعًا كمصريين أهملنا كل شىء وانشغلنا بأنفسنا فكانت النتيجة خسارة كبيرة لنا، فهؤلاء الرموز دول كثيرة تحسدنا عليهم، دول تتمنى أن يكون بينهم رمز واحد منهم.. دول تحاول أن تدفع الملايين من الدولارات لكى تقتنى آلة موسيقية لواحد منهم ليس لشىء إلا لأن عبدالوهاب أو عبدالحليم أو أم كلثوم أو الموجى أو بليغ احتضنها، وشاركته ابداعه.. هذا هو الفارق بين ناس تمتلك الحضارة والتاريخ، وآخرين يحاولون شراء تاريخ.

زار الفنان اللبنانى مارسيل خليفة الإسكندرية لإقامة حفل يوم 29 يوليو الماضى فى افتتاح مهرجان المكتبة الصيفى للفنون، وخلال زيارته قرر زيارة منزل فنان الشعب سيد درويش وفوجئ مارسيل بمشهد لم يتصوره أو يتخيله أحد وجد منزل سيد درويش وقد تحول إلى مقلب قمامة.

وقال الفنان، فى تصريحات له قبل مغادرة الإسكندرية :حرصت على زيارة منزل الموسيقار سيد درويش بكوم الدكة، والمكان مهدم وفى حاجة إلى اهتمام يليق بمكانة قائد الأغنية الوطنية.

وطالب الفنان الفلسطينى، القائمين على الثقافة والتراث بالإسكندرية بإحياء منزل سيد درويش الفنان المصرى الذى استطاع تغيير شكل الأغنية، على حد وصفه، مطالبا بتحويله إلى متحف يضم مقتنياته.

إلى هنا انتهى تصريح الفنان اللبنانى. وربما يكون ما شاهده مارسيل مفاجأة له، لكن "الوفد" سبق وتناولت هذه القضية أكثر من مرة منها آخرها فى 21 يونية 2011. وبالتالى كلامه ليس مفاجأة لنا. فقد تطرقنا إلى ما وصل إليه حال منزل سيد درويش أول من طور الموسيقى العربية وأخذها إلى مصاف الأغنية العالمية بعد ان عاشت عقودًا طويلة تعتمد على الشكل العثمانى والتركى وهو ما عرف بزمن أمان يالا للى. ورغم ذلك لم يتحرك أى وزير ثقافة وكأن سيد درويش ليس مصريًا، أو ان منزله تعرض لتسونامى فاختفى من الوجود رغم ان وجود المنزل بهذا الشكل هو قمة الاهانة للمبدعين كما انه يمثل إدانة للدولة المصرية ولوزارة الثقافة التى انشغل موظفوها بتلميع أنفسهم، والبحث عن مجد شخصى رغم ان ترميم منزل شخصية بحجم درويش فنان الشعب سوف يكتب فى سيرتهم الذاتية لأنهم أعادوه من العدم للوجود.

قضية إهانة رموز الموسيقى والغناء فى مصر هى قضية كل العصور، وكثيرًا ما تم تناولها عبر وسائل الاعلام المختلفة لكن الدولة خلال ربع القرن الاخير كانت تنظر للمبدع على أنه اراجوز، لذلك هناك اسماء كبيرة عانت كثيرًا قبل رحيلها ولم يلتفت إليها أحد، واسألوا بليغ حمدى والموجى والطويل، الاهمال طال هذه الاسماء أحياءً وأمواتا.

هناك اسماء أخرى طالها الاهمال لا يتصورها عقل أم كلثوم تحول منزلها إلى برج أم كلثوم بالزمالك، وكل ما تبقى لها هو فندق يحمل اسمها فى عدة طوابق بهذه البناية وعبدالحليم حافظ منزله فى الزمالك أيضًا تحول إلى متحف مغلق لا يزوره سوى أصدقاء الأسرة والمنزل تقيم فيه ابنة شقيقته علية شبانة.

أما منزل الموسيقار الكبير محمد الموجى بالعباسية فقد احترق ثم استحوذ مالك العقار على الشقة وهو المنزل الذى شهد لقاءاته مع عبدالحليم حافظ، وحكايات طويلة بين تلك الأسرة الفنية وشادية وصباح وحليم وهى الاسماء التى كانت تتواصل مع أسرة الراحل الكبير.

والآن مكتبه بشارع الشواربى يوجد به تراثه مسجل على أشرطة وبح صوت ابنه الموجى الصغير لكى يقنع الدولة لكى تهتم بتراثه وتعيد توثيقه بطريقة حديثة للحفاظ عليه قبل ان يحترق هو الآخر وتتحول الأشرطة إلى رماد، كما احترقت مقتنياته بمنزل العباسية، ففى منزل الشواربى يوجد العود الخاص به كما يوجد العود الخاص بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الذى حصل عليه كهدية من الأسرة بعد رحيل العندليب بأيام.

 البعض قد يقول وماذا تفعل الدولة أكثر مما فعلته لأم كلثوم وحليم فالاحتفال بميلادهما ورحيلهما يتم بشكل منتظم، وهذا صحيح لكن الدولة أهانت أم كلثوم عندما سمحت لاسرتها ببيع منزلها بالزمالك وتحويله لفندق ،نعم هو يحمل اسمها لكننا فى النهاية فقدنا اثرًا مهمًا لمطربة العالم العربى الأولى على مر العصور، وعبدالحليم مازال منزله أيضًا فى يد الأسرة ولا نعلم مستقبلًا ماذا سيحدث فيه.

أما منزل الموسيقار محمد الموجى فعاد بالفعل إلى مالك العقار عقب حريقه حتى عندما حاولت الأسرة اطلاق اسم الراحل الكبير على الشارع الذى يقطن به بالعباسية وهو بالمناسبة اسمه شارع البراد رفضت المحافظة.

كما ذهب منزل موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب على كورنيش الزمالك بجوار ماريوت إلى مالك العقار بعد أن عادت زوجته الراحلة نهلة القدسى إلى وطنها الأردن فى آخر سنوات عمرها. وهو المنزل الذى شهد ميلاد أجمل الألحان الخالدة التى أثرت موسيقانا العربية، وشهد لقاءات الموسيقار الكبير بأهم مطربى العالم العربى.

أما منزل عبدالوهاب بمنطقة باب الشعرية بحارة الشعرانى فتحول الدور الأول منه إلى محل بقالة وتسكنه الآن إحدى الأسر الفقيرة رغم انه من الممكن ان يتحول إلى مزار عالمى.

وهناك اسماء أخرى ماتت وهم فى عداد الشحاذين، رغم ان ابداعهم هو العمود الرئيسى للنغم العربى على مر العصور، ما اعلمه مثلًا ان ابنة الموسيقار الكبير محمود الشريف تعانى والجهة الوحيدة التى تدعمها هى جمعية المؤلفين والملحنين رغم ان من حقها على الدولة ان تعيش ملكة لأن والدها من أهم ملحنى الوطن العربى على مر التاريخ، ابن الشاعر الراحل الكبير بيرم التونسى وكان يعيش فى الإسكندرية ولا أعلم ان كان على قيد الحياة أم لا، لأننى شاهدته منذ سنوات وكان مظهره يدل على ما وصل إليه من حال لا يتناسب مع أهمية والده.

لو انتقلنا إلى أوربا وشاهدنا ماذا تفعل دولها للحفاظ على تراثها وعلى كل قطعة حجر ملقاة فى الشارع ليس لشىء إلا لمجرد ان أحد مبدعيها مر عليها، وهو الأمر الذى يعكس مدى اهتمام هذه الدول بمبدعيها ويجعلنا  نشعر معه بالخزى والعار لاننا نتعمد إهانة وتشويه رموزنا الفنية.

نذهب إلى منزل كفافيس الشاعر اليونانى الكائن بشارع ليبسيوس بالإسكندرية ويبعد عن منزل درويش بـ1000 متر فقط ويقع على بعد 5 أمتار فقط من مسرح سيد درويش.

سيد درويش منزله أصبح مقلبًا للقمامة، بينما منزل كفافيس أصبح متحفًا عندما تدخل إلى غرفة النوم تشعر وكأن كفافيس قام بترتيب السرير لتوه، كتبه واشعاره مرتبة، كل شىء جميل من حولك، وهناك مجموعة من العاملين مهمتهم ترتيب وتنظيف المنزل بشكل يومى.

لو ذهبنا إلى دول مثل ألمانيا شاهدوا ماذا فعلت بمنزل بيتهوفن وكيف حافظت على البيانو الخاص به وكيف تحول إلى مزار سياحى لكل زوار المانيا وعشاق الموسيقى على مستوى العالم.

اما النمسا فصنعت من منزل موتسارت أهم مزاراتها السياحية على اعتبار ان العالم كله يعرف من هى تلك الشخصية التى أثرت العالم بموسيقاها، هكذا تقدم الدول المتحضرة والمتقدمة فى الفكر والثقافة رموزها الفنية، هم مصدر فخرها وعزها.

الفارق الوحيد بين كفافيس ودرويش ان الأول حكومته تؤمن بالابداع والثانى بلده تهمل الابداع ومبدعيه بل تنكل بهم وتدفعهم إلى الهاوية، وإذا قلنا ان الفرق بين منزل درويش وكفافيس بالإسكندرية كيلو متر فقط، فالفارق بين فكر الدولتين اليونانية والمصرية يوازى عشرات الملايين من الكيلو مترات فى الفكر ودرجة الاهتمام بالرموز.

المسئولون الحاليون عن الثقافة المصرية وفى مقدمتهم الكاتب الصحفى حلمى النمنم فى اختبار وتحدٍ كبير لأن واجبهم يحتم عليهم عمل دراسة سريعة ومسح شامل لكل مبدعينا ووضع تصور لتكريمهم وتحويل منازل من رحلوا إلى مركز للابداع الفنى والاشعاع الثقافى، ولتكن البداية بمنزل سيد درويش بالإسكندرية وإن وجدوه لأن الكثيرين متخوفون ان مقلب القمامة الذى كان منزل درويش سابقا ربما يتحول إلى ناطحة سحاب او مشروع تجارى كما حدث مع منزل أم كلثوم وغيرها.

نرشح لك

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل