المحتوى الرئيسى

فى مديح الكسل

08/17 22:36

اشتهر الكاتب البريطانى برتراند راسل، بمساهماته فى مجالات الفلسفة والمنطق والنقد الاقتصادى والاجتماعى. وقد حظيت مواقفه وكتاباته السياسية لاسيما تلك المناهضة للحروب والداعية للسلام باهتمام الأوساط الثقافية فى أوروبا. إنما اعترف أن نظرياته ومواقفه، على نبلها وسموها، أراها مواقف تبناها عدد من المفكرين بعد الحربين العالميتين، وقرأت ما يشبهها عند آخرين، فراسل ينتمى لتيارات تطورت مع تطور مراحل حياته وحسب تغييرات الساحة الدولية بين عشرينيات وسبعينيات القرن الماضى.

أعترف أننى لم أكن قد قرأت أيا من كتابات برتراند راسل قبل أن تقع يداى على كتابه الأصغر حجما والأقل ضجة «فى مديح الكسل». استوقفنى أن يمدح أحدهم الكسل فى كتاب جدى وليس هزلى، فى كتاب يناقش الاقتصاد وليس أسلوب الحياة. وقد وضع الكتاب فى طريقى منذ نحو العشر سنوات فى مرحلة أعتبرها مرحلة مكتظة فى حياتى لا وقت لدى فيها للتوقف والكسل. لم أقرأ الكتاب كاملا وقتها، إلا أننى كثيرا ما فكرت فى مفهوم الكسل كمادة للمديح. ورغم أن الكاتب يستخدم مصطلح الكسل، إلا أنه يحاول فعليا أن يشرح أن بعضا من التأنى ومن البطء ليس بالسوء الذى تفرضه علينا عقلية السوق وحمى الإنتاجية بمعناها الليبرالى والرأسمالى.

بعيدا عن الجانب الاقتصادى وعن نظريات العرض والطلب وتضارب المواقف الرأسمالية والاشتراكية، فهناك فعلا مدعاة لتأمل مفهوم السكون أو مفهوم عدم الحركة، وهو ما يقصده راسل بالكسل «فالكلمة فى اللغة الإنجليزية يمكن ترجمتها إلى الكسل وأيضا إلى عدم الحركة»: فى يوم عادى هل نتوقف عن «الفعل»؟ هل يتوقف عقلنا عن الدوران داخل رأسنا؟ حين نبتعد عن جهاز الكمبيوتر أو عن آلة نعمل عليها أو عن أى حركة تشكل «عملنا»، هل نتوقف عن العمل تماما؟ على الأغلب أننا نتوقف عن عملنا الفعلى لنقوم بعمل آخر. نبتعد عن الكمبيوتر فنتجه إلى المطبخ، نخرج من المكتب فنقضى حاجة متراكمة منذ زمن، نمشى بضع خطوات بعيدا عن مكان إنتاجنا لكننا نصلح شيئا فى البيت، نأخذ ولدا إلى الطبيب، نضع الغسيل فى الغسالة أو نقرر تنظيف الدرج فى هذه اللحظة.

لن أفترض أننى أمثل جميع من أعرفهم فى عدم قدرتى على السكون، إلا أننى أراقب منذ فترة عادات من أعرفهم ومن أحبهم، وقلة هم من أراهم قادرين على السكون، أو على «عدم الفعل» ولا أعنى بذلك عدم الإنتاج، ففى ظل حالة الركود الاقتصادى والإحباط العام التى تجتاح معظم بلاد المنطقة، قد لا ينتج الكثير منا أى شىء أصلا. إنما أعنى قدرة أحدنا على اتباع إيقاع أكثر بطئا، أقل تنظيما، مواعيده أقل صرامة، أيامه أقل رتابة. سافرت أخيرا مع مجموعة أصدقاء وعائلاتهم لمدة أسبوع فى رحلة تخيلت وقت التخطيط لها أنها ستكون رحلة خارج عامل الوقت، فى مكان بعيد عن حياتنا اليومية، فى جو لا يحتاج للكثير من التنظيم. راقبت أفراد المجموعة أثناء الرحلة فظهر لى فورا من لا يتوقف عن الدوران «وأعترف أننى من هذه الفئة» ومن يستطيع أن يخرج نفسه من الإيقاع ومن ضرورة تحديد ساعات فى اليوم لنشاطات بعينها. منا من هو بحاجة لتحديد مدد زمنية وربطها بأمور كالرياضة أو الأكل أو التنظيف أو السياحة، ومنا من يستيقظ دون خطة ولا يرى ضرورة العجلة فى الإفطار ولا يفهم إصرار البعض على ترتيب اليوم وتخطيط الساعات.

عدت إلى كتاب «فى مديح الكسل» بعد رحلتى مع الأصدقاء، لأفكر فى مفهوم الإجازة، والتى هى مقدسة فى البلاد المتقدمة اقتصاديا، حيث إن الإجازة مدرجة فى قانون العمل كحق. فكرت فى عدد الأشخاص الذين أصادفهم يوميا فى عالمى فى مصر والذين يفترض المجتمع أنهم ليسوا بحاجة لإجازة، أو بالأحرى لا حق لهم ببضعة أيام فى السنة يتوقفون فيها عن العمل دون أن يقف دخلهم. الموضوع طويل ومعقد إنما يحمل الكثير من الدلالة على وضعنا السياسى والمجتمعى: فبضعة أيام من الإجازة المدفوعة الأجر قد يستخدمها الكثيرون للعمل ساعات إضافية تساعدهم فى الحصول على دخل إضافى بدل استخدامها للاسترخاء. أذكر أنه فى مرة زارنى فيها أخى فى نيويورك حين كنت أعيش فيها، ذهبنا إلى مطعم صغير لتناول وجبة الغذاء. بعد أن جاءتنا الشابة الشقراء اللطيفة بطلبتانا اختفت حتى أننا حين طلبنا الحساب فقد طلبناه من شاب يعمل هناك. عند خروجنا من المطعم أوقفنى أخى قائلا «شوفى، البنت اللى ساعدتنا عم تتغدى على طاولة متلنا». فعلا، كانت الشابة فى وقت راحتها من العمل، تتغذى فى المطعم التى تعمل فيه، لا تأخذ الطلبات ولا تسمح للزبائن بالتدخل فى دقائق راحتها، فينوب عنها زميل لها ريثما تأكل.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل