المحتوى الرئيسى

إبني عنده محل بالمنصور

08/17 17:38

في كل تحوّل، أو انتقال من مكان إلى آخر، لا بد من تضحيات تقابل المكتسبات التي انتقل أو تحول الإنسان من أجلها.

لو أخذنا المهاجرين إلى بلدان العالم المتقدم مثالا، على اختلاف مسببات الهجرة، إنسانية كانت أم سياسية أم لتحسين الوضع المعاشي، نجد أن ما كسبوه من مميزات، كالأمان والاستقرار والحرية بأحلى صورها والمستقبل الآمن لهم ولأبنائهم، نراهم يفتقدون لبيئتهم التي قدموا منها، ويحنون لتفاصيل حياتية صغيرة أو كبيرة، كانت تشكل جزءاً مهماً من حياتهم في وطنهم الأم. مع هذا، فهم باقون في الوطن الجديد، لأن مكتسبات الحال الجديد فاقت التضحيات، إلا ما ندر.

ولدتُ في مدينة الحرية (مدينة الهادي في زمن الملكية، وإلى وقت قريب، نسبة إلى عبد الهادي الچلبي)، المنطقة الشعبية التي تقع شمال غربي بغداد. لكن محل ولادتي في هوية الأحوال المدنية العراقية كُتِبَ: المنصور – الكرخ – بغداد. وطالما كانت هذه الخانة من هوية الأحوال المدنية مصدراً لسعادتي، لأن المنصور هو الحي البغدادي الراقي والأقرب إلى القلب.

ورا ما صار بالعراق اللي صار من تغييرات بعد 2003، أصاب حي الحرية ما أصاب كل أحياء بغداد من تغيير سكاني. طلعوا منها ناس واجوي بمكانهم ناس وصارت الحرية كانتون لنوع واحد من الناس، أيضا كأغلب أحياء بغداد، بعد أن كانت خليطا متجانسا ومتسقا كونته الظروف الطبيعية ومتطلبات المراحل السابقة من عمر العراق وبغداد ومدينة الحرية. بالإضافة لذلك، وبسبب تردي الوضع الأمني المستمر على مدى 13 عاما، تم غلق الشارع الرئيس، اللي يكون فيه محلي العتيد (مفيد عباس للألبسة الرجالية) واللي أسسلياه ابوية الله يرحمه في نهاية ثمانينات القرن المنصرم من مكافأة نهاية الخدمة. ولم يعد بإمكان السيارات المرور فيه، ما أدى إلى تردي حال الشارع وصعوبة وصول الزبائن والاصدقاء إلي ولمحلي، ناهيك عن أصدقاء العالم الأزرق من كل شبر في العراق الذين تكونت لي معهم علاقات صداقة كبيرة بكل معانيها.

بهذا المحل عندي ذكريات، بل حياة كاملة. أصدقاء وزبائن وجيران. مواقف وأحداث ابتدأت من أواخر الحرب العراقية الإيرانية، مرورا بسنين الحصار وظروفه القاسية، وصولا إلى سنوات العنف الطائفي والتحولات الديموغرافية الناتجة عنه.

أيضا، عندي مجموعة من صانعي الأحداث: صلاح المصور الذي حول مهنته من التصوير إلى بيع الأحذية النسائية ومقالبه المستمرة. مالك وعباس، الشريكين المتناقضين، ورغم تناقضهما استمرت شراكتهما ربع قرن. أم ياسر جارتي اللي تسكن في نفس بناية محلي، وفوقي مباشرة، وروائح مطبخها الشهية تتسلل عبر نافذتي الصغيرة المطلة على منور العمارة. علاقات بزبائن قدماء أصبحوا اصدقاء. شخصيات مثيرة للجدل والضحك والچقلمبات، مثل رضا أبو الداطلي وأبو عباس أبو الجبن المعفّن وعصام الأسود. أشياء كثيرة وأشخاص كثر تركتهم وتركت عندهم حياة بأكملها حين سنحت لي فرصة التغيير والانتقال إلى محل ولادتي المذكور في هوية الأحوال المدنية: حي المنصور.

في المنصور، كل أصدقائي واصلوني ووصلوني. لم يعد هناك حاجز، كالحاجز الوهمي (السياسي) الذي صنعته إرادات خبيثة في مدينة الحرية الحبيبة ومناطق وأحياء بغدادية كثيرة.

المنصور ما زالت، هي وبعض مناطق بغداد الراقية، تتنفس هواء المدنية وتتصدى للمتغيرات المصطنعة. ففرحت بها وفرحت بأصدقائي وزبائني (البيضان الجدد)، كفرحة أمي عندما سمعت بخبر محلي الجديد في المنصور، وأشاعته بين نساء الطرف متباهية: مفيد ابني عنده محل بالمنصور .. وكلكم عيوني

عن الكاتب: مفيد عباس، ناشط مدني عراقي ومدوّن في وسائل التواصل الاجتماعي. كتب لجريدة العالم البغدادية. 

لمتابعة مفيد عباس على فيسبوك إضغط هنا. وعلى تويتر إضغط هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

أطلقت حملة “إرفع صوتك” بهدف تشجيع الشباب في الشرق الأوسط على أن يكونوا جزءاً من النقاش الدائر حول مواضيع التطرف والأسباب التي أدت الى ظهور الإرهاب. ففي وقتٍ تستمر وسائلُ إعلامٍ مختلفة بعكس اهتمامات ومصالح سياسية وإثنية معينة، أوجدت فروع شبكة الشرق الأوسط للإرسال (قناة “الحرة” وراديو “سوا” والقسم الرقمي للشبكة) لنفسها مصداقية مهنية مهمة وسط أجواء الانحياز التي تعمل فيها وسائل إعلام مختلفة، وذلك بتقديم الأخبار والمعلومات الدقيقة والموزونة.

السليمانية – بقلم متين أمين: منذ تخرجها من أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد قبل 24...المزيد

بغداد – بقلم دعاء يوسف: “يحرص الكثيرون على إظهار استيائهم عند رؤية لاعبة رياضية، فهم يريدون...المزيد

حلقة يوم الثلاثاء،16 آب/أغسطس: الرياضة في العراق… هل تلقى الاهتمام الشعبي والرسمي؟ وهل يمكن ان...المزيد

بقلم علي عبد الأمير: لم تكن الألعاب والمباريات الرياضية قد عرفت في منطقتنا وحتى سبعينيات...المزيد

بغداد – بقلم دعاء يوسف: أكثر ما يثير انتباهك في العاصمة بغداد لحظة انطلاق مباريات كرة...المزيد

مشاركة من صديق (إرفع صوتك) أحمد الشيخ: على الرغم من الانفتاح على الرأسمالية والمظاهر الحياتية...المزيد

بقلم محمد الدليمي: “أخطر شيء الآن هو أنّ الجيل الحالي يفضل أن يموت غرقاً”، هكذا يصف الكاتب...تابع القراءة

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل