المحتوى الرئيسى

الحنين إلى الشرق المقدس في مخيّلة الأندلسيين العرب واليهود

08/16 12:46

"حُرْقَةُ اُلْأَضْلَاعْ وَاُلْقَلْبُ اُلْمُلْتَاعْ وَنَشْوَةُ اُلْيَرَاعْ فِي اُلْحَنِينِ لِلْوَطَنِ اُلْمُضَاعْ"

في مرحلة حرجة من تاريخ أمتنا العربية والمنطقة بأسرها، ومع موجات الهجرة العربية العشوائية نحو أوروبا النجاة بل أوروبا الحلم التي نراها على الفضائيات، يستحضرني مشهد قوافل المهاجرين العرب نحو الأندلس في القرنين التاسع والعاشر.

تناقلت كتب الأدب والسِيَر أخبار العرب الأندلسيين في تلك الأرض البعيدة والنائية عن بلادهم الأصلية في العراق والشام ونجد والحجاز وأرض الكِنانة وغيرها. وكان أكثر ما سمعناه وقرأناه عن أخبار وأشعار الأندلسيين، يَنقل لنا مدى تعلّق أولئك الأعراب وشغَفِهم بالطبيعة الأندلسية الغنّاء، الملأى بالغدران والأنهر والينابيع والجبال الخضراء، التي تفتقدها بلدان العرب المشرقية، خصوصاً شبه الجزيرة العربية. لكن العلاقة بين ذلك العربي المُهاجر وموطنه الأصلي في الشرق، قلما شغلت بال القُرّاء والباحثين على السواء. أللهمّ باستثناء ما نقرأه أحياناً عن قصة الأمير عبد الرحمن الداخل مع شجرة النخيل التي لمحها في مُنية الرُّصافة وذكّرَتْهُ بموطنه في رصافة الشام والتي مطلعها:

تَبَدَّتْ لَنَا وَسْطَ اُلرُّصَافَةِ نَخْلَةٌ    تَنَاءَتْ بَأَرْضِ اُلْغَرْبِ عَنْ بَلَدِ اُلنَّخْلِ

فَقُلْتُ شَبِيهِي فِي اُلتَّغَرُّبِ وَاُلنَّوَى    وَطُولِ اُلتَّنَائِي عَنْ بُنَيَّ وَعَنْ أَهْلِي

نَشَأْتِ بِأَرْضٍ أَنْتِ فِيهَا غَرِيبَةٌ    فَمِثْلُكِ فِي اُلْإِقْصَاءِ وَاُلْمُنْتَأى مِثْلِي

فتلك العلاقة التي تربط المرء الغريب والبعيد والمهاجر بموطنه الأصلي ودياره الأولى، حيث أبصر النور وعهِدَ مرابع الصِّبا، هي علاقةٌ نبيلة تندرج في صُلب الشعور الإنساني المرهف، التوّاق لكل ما مضى وقدم وبعُد ولن يعود.

فكيف، وقد سمعنا كثيراً عن بهجة واستئناس الأندلسي بأرضه الجديدة، كيف له أن يحنّ لأرض لم يسعد بها. أرض جرداء قاحلة موحشة تستوطنها الظباء والمها واليرابيع؟ وإذا كان المرء يحن لأرضه وتجاربه الأولى، ويحن للرجوع إليها دائماً ولو في كفَن، فكيف نفسّر استمرار ظاهرة الحنين للشرق في صفوف الجيل الثاني والثالث والرابع من الشعراء الأندلسيين، الذين لم يروا ولم يشاهدوا الشرق بأم العين ولا حتى مرة واحدة؟

الإجابة عن هذين السؤالين تستوجب الرجوع قليلاً إلى الوراء، واستحضار النموذج الشعري الأولي الذي أرسَت أسسه قرائح الشعراء الجاهليين، وعلى رأسهم الأمير الضِلّيل، الذي كان أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى. ابتدع امرؤ القيس النموذج الشعري القديم الذي أثّرَ أيّما تأثيرٍ في من تلاه من الشعراء، والذي يتلخص بأن يبدأ الشاعر بمشهد الفراق والتنائي في مطلع قصيدته، والبكاء على رسم وطللٍ بدَوا أمامه أثراً بعد عين، فيصفهما وما حولهما من آثار بادية وبالية، وأن يذكر أسماء المواضع التي تعبق برائحة الحنين والفقدان والحسرة المحيطة بمواضع المحبوبة الدارسة، أو تلك التي تذكر بها وبمواضع التلاقي والوصال بين الشاعر وحبيبته.

شارك غردقوافل المهاجرين العرب نحو الأندلس في القرنين التاسع والعاشر والحنين في أشعارهم...

شارك غردالعلاقة بين العرب المهاجرين للإندلس ومواطنهم الأصلية في الشرق قلما شغلت بال القراء والباحثين… وقفة تأملية فيها

لِيَ اُللهُ كَمْ أَهْذِي بِنَجْدٍ وَأَهْلِهَا    وَمَا لِي بِهَا إِلَّا اُلتَّوَهُّمُ مِنْ عَهْدِ

وَمَا بِي إِلَى نَجْدٍ نُزُوعٍ وَلَا هَوًى    خَلَا أَنَّهُمْ شَنُّوا اُلْقَوَافِيَ عَلَى نَجْدِ

فكأن أسماء المواضع الجغرافية المشرقية وحدَها صالحة للشعر، وغيرها من أسماء بما فيها تلك الأسماء الأندلسية كطليطلة ومجريق وشنترين، وسواها من أسماء مواضع إسبانية تمت عربنتها لتتوافق والميزان الصرفي العربي، بقيت غير مناسبة على الإطلاق. وكأن النسيب والأطلال يستأثر بهما الأصل المشرقي ليس إلا.

غير أن تلك فقط نصف القضية، أما نصفها الآخر فيتلخص في أن الشرق لا يعتبر فقط مرجعاً شعرياً نسيبياً، يحتذي الشاعر الأندلسي بأسلافه المشرقيين القدامى وبالنموذج الشعري العربي الأصيل فحسب، لكنه مرجعية عشقية ونباتية ومناخية، ونَسبية ودينية بالغة الأهمية. فقصص الحب الخالدة التي درج عليها شعراء الأندلس، هي القصص المشرقية التي خط سطورها عنترة وقيس المجنون، وقيس بن ذريح وجميل بثينة، وكثير عزّة، التي ذكرها وذكر أصحابها الشعراء الأندلسيين كلما كواهم الشوق والجوى. ونباتات الصحراء التي تنمو بمعظمها في أرض الحجاز والشام، طالما تاق إليها الشاعر الأندلسي واستحضرها في شعره تيمناً بأقرانه وأسلافه المشرقيين، وتحسر ولازمه شعورٌ بالنقص تجاه هؤلاء، الذين عايشوا المناخ الشعري الحقيقي. بينما وجد نفسه يكتب عنه وعن المناخ الجغرافي والنباتي المشرقي من زاوية البعيد الغريب. أما الطقس والمناخ المشرقي ورياحهما، فلم يغفلها الشاعر والشعر الأندلسي. على العكس، لقد أكثروا من ذكرها، وكأنهم الغائبون الحاضرون في الشرق والغرب على حد سواء. أما إذا أراد الأندلسيون الإشارة إلى الكرم، فإننا نراهم يستحضرون حاتماً، وإذا أرادوا شجاعة، يرجعون إلى عنترة، وإذا قصدوا الحكمة والفلسفة يُحيلون إلى لقمان والمعري وآخرين من جهابذة الفكر المشرقي.

أما الدين فحدث ولا حرج، فمكة والمدينة لم تكونا يتيمتين في الدواوين الشعرية الأندلسية، بل لحقتهما أراض ووِهاد ومواضع على طريق الحج من جميع الجهات، كالغوير وسلع ومنى وزمزم، وغيرها الكثير من أماكن، تم توظيفها جميعها في الشعر الصوفي في الأندلس، وفي شعر المديح النبوي للدلالة على الحنين للديار المقدسة، والرسالة المحمدية، ولملاقاة الذات الإلهية. ولا ننسى كذلك توظيف بيت المقدس أو صهيون أورشليم، باسمها العبراني، في الدلالة على الحنين للشرق لدى شعراء الأندلس اليهود، الذين ربطتهم بالمسلمين أواصر التفاهم والاحترام المتبادل، والذين استعاروا من العرب بحورهم وأغراضهم وبلاغتهم وأسلوبهم وصورهم الشعرية الكثيرة، عوضاً عما استعاروه من بيان توراتيّ.

قال عبد الجبّار بن حمديس (ت. 1133) متحسراً على غربته ومحيلاً في الوقت نفسه إلى امرئ القيس الكِندي المشرقي، وإلى معلقته والمواضع التي ذكرها فيها، وإلى حب ذلك الشاعر اللاهي ولمغامراته العاطفية:

بحكم زمان يا له كيف يحكم    يحرِم أوطاناً علينا فتحرم

لقد أركبتني غربة البين غربةً    إِلى اليوم عن رسم الحمى بي ترسم [.....]

وقد سفرت في توضح فتوضحت    مسالكه للسفر والليل مظلم

ومرت على سقط اللوى فتساقطت    دموع عليها درّها لا ينظم

وقد ضرجت ثوبي لدى عين ضارِج    على جفونٌ ماؤها بالأسى دم

معاهد ما زال امْرؤ الْقيس بينها    يعَبر عن عهد الهوى ويترجم

نبات البان المشرقي وما يجلبه ويستحضره من وجدان وشوق، وتذكّر للديار والخلان والشرق عامة، ونفور من الغربة أصعب من أن نحيطه بأمثلة. قال المقري التلمساني يشكو بعداً عن تلمسان، مستخدماً البان والرند:

عهودهم لست أنساها وكيف وقد    رثَى لبيني عنها الرند والبان

وقال ابن زيدون (ت. 1071) في نونيته محملاً ريح الصبا سلام الأحبة:

ويا نسيم الصبا بلّغ تحيتنا     من لو على البعد حياً كان يحيينا

الدين ومنبع النبوة مرده للشرق، والشرق طالما ارتبط بالقداسة في مخيلة الأندلسيين. فها هو حازم القرطاجني (ت. 1386) يربط طيبة، حيث ضريح الرسول بمعلقة امرئ القيس فيقول:

لعينيك قل إن زرت أفضل مرسل    قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزِل

وفي طيبة فانزِل ولا تغش منزِلا    بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وكجزء لا يتجزأ من الشرق، تُعتبر القدس أكثر ما يصبو إليه اليهودي في الأندلس. فيقول الشاعر سليمان بن غبيرول اليهودي الأندلسي (ت. 1058) مخاطباً المنفيين من أبناء جلدته الذي هاموا على وجوههم وتشتتوا أيدي سبأ بعد نفيهِم وخراب هيكلهم الثاني:

ألا تبكون يا جموع المنفيين؟    ألا تبكون مدينة صهيون؟

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل