المحتوى الرئيسى

ما بين «الأسطورة» و«الشهد والدموع»

08/13 22:30

كنت قد لاحظت أن نجلى، البالغ من العمر 15 عاماً، يُظهر اهتماماً وولعاً بمسلسل «الأسطورة»، وبطله النجم محمد رمضان، ضمن سياق متكامل من النجاح الجماهيرى الذى حظى به هذا العمل.

لهذا السبب تحديداً، حرصت على مشاهدة إحدى حلقات المسلسل، فروعنى ما حملته تلك الحلقة من هشاشة فنية، وتدنٍّ قيمى، وسطحية وافتعال وابتذال.

أمكننى لاحقاً أن أربط بين هذا التراجع الفنى والأخلاقى للعمل من جانب وبين رواجه ونجاحه الجماهيرى من جانب آخر، على قاعدة أن الفن يزدهر ضمن السياق المناسب لما يعكسه من قيمة وقيم.

سيمكن بالطبع تفهّم النجاح الجماهيرى لعمل مثل «الأسطورة» ضمن سياق عام يعلى من شأن الثروة، من دون مراجعة أساليب جمعها، ويركز على إدراك المتع وتحقيق الأهداف، بغض النظر عن سندها الأخلاقى.

سيكون محمد رمضان، بما يقدمه حالياً من مضامين فنية، عنواناً من عناوين تلك المرحلة، وسينطبق هذا على سلسلة أفلام البلطجة التى يجتهد فى تقديمها؛ مثل: «عبده موتة»، و«الألمانى»، و«قلب الأسد»، وبعض المسلسلات التى أخذت تنحو المنحى نفسه، بعيداً عن بداياته التى قدم فيها أعمالاً جيدة مثل «الخروج من القاهرة»، و«احكى يا شهرزاد»، و«الشوق». لم يكن نجلى وحده هو من تعلق بشخصيتى الأخوين «الدسوقى»، اللتين جسدهما رمضان فى «الأسطورة»، بل إن قطاعات كبيرة من النشء أظهرت هذا التعلق والاهتمام.

من جانبى، أعتقد أن أى محتوى فنى يتعرض له الجمهور يحقق تأثيراً على مستوى الوعى ومنظومة القيم، وأرى أن تراكم أنماط معينة من المحتوى يمكن أن يؤثر فى منظومة القيم السائدة فى أى مجتمع سلباً أو إيجاباً.

تكمن خطورة الفن فى هذه القضية تحديداً؛ فهو ليس فقط غذاءً للروح، ولا بهجة للنفس، لكنه فى معظم الأحيان رافعة للقيم، وآلية من آليات التنشئة الوجدانية، وسجل للمرحلة، وتوثيق لانشغالاتها وهمومها.

من حسن الحظ أن قناة «نايل دراما» كانت قد بدأت فى عرض الجزء الثانى من مسلسل «الشهد والدموع» أخيراً، وقد وجدت فى إعادة عرض هذا العمل الراقى فرصة سانحة لمعادلة الأثر السلبى للجرعة التى قدمها «رمضان» لجيل كامل من المشاهدين، استسلموا لخلطة التوابل الحريفة فى مسلسله.

بداية، كانت مهمة شاقة أن تقنع هذا الصبى اليافع بأن يجلس ليشاهد عملاً درامياً تم إنتاجه فى العام 1985. وبعد جهود كبيرة استهدفت تقليل هواجسه جراء كثافة التصوير الداخلى، والديكور الفقير، وبعض المغالاة الواضحة فى أداء الممثلين، وافق على أن يجرب مشاهدة حلقتين.

كانت طريقتنا فى قراءة الكتب تقوم على فكرة أن يقدم نجلى ملخصاً لى عمّا فهمه من كل كتاب قرأه، على أن أفعل فى المقابل الشىء نفسه، ولذلك، فقد كان من اليسير أن أقنعه بأن يقوم برصد القيم التى ينطوى عليها المحتوى الدرامى فى «الشهد والدموع»، وأن يقارنها بالقيم التى يتذكر أن «الأسطورة» يكرسها أو يدعو لها.

ولكى لا يحدث أى لبس أو تشويش، فإننا وحّدنا مفهومنا للقيم، باعتبارها معايير أخلاقية تؤطر الممارسة، وبوصفها محركات سلوك، توجه أفعالنا، وتنبنى على أحكام عقلية ووجدانية، نكتسبها أو نتعلمها من المجتمع.

لم يستطع نجلى ذو الخمسة عشر عاماً أن يتوقف عن متابعة «الشهد والدموع» بعد حلقتين، لكنه استمر فى المتابعة حتى أنهى حلقات الجزء الثانى كاملة، مُظهراً حرصاً على ألا تفوته حلقة من الحلقات.

وعندما حان الوقت لكى يقدم ورقة المقارنة بين القيم التى يطرحها العملان، لم يستغرق الأمر منه وقتاً، كما لو أن الأمور جاءت أوضح من أى تقدير أو توقع.

وفى المساحة المخصصة لرصد القيم التى يكرسها «الشهد والدموع»، جاءت العبارات التالية، مع الأخذ فى الاعتبار أنها كُـتبت بلغة فتى فى الخامسة عشرة من عمره:

- التعليم أبقى وأهم من المال

- العلم وسيلة الصعود الاجتماعى

- الحق ينتصر فى النهاية

- لا يمكن أن تستعيد حقك من خلال ظلم الآخرين

- المساواة.. المسيحيون والمسلمون نسيج واحد

- لا تستسلم للهزيمة، ولا تتشفَّ بعد النصر

- الكراهية شر يحرق صاحبه، والحب علاج للجميع

- العائلة والوطن شىء واحد.. وكلاهما أهم ما فى حياتنا.

لم يكن نجلى فى حاجة إلى أن يرصد القيم التى كرسها مسلسل «الأسطورة»، لأنه ببساطة أوجز ما يعتقده فى هذا الصدد بقوله: «لا توجد قيم أصلاً، وإن وجدت فهى عكس ما جاء فى (الشهد والدموع)».

يبقى عدد من الأسئلة التى يجب أن نحاول الإجابة عنها، منها: هل يمكن أن يكون لدينا أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبدالحافظ من جديد؟ وإن وُجدا، فهل لدينا آلية إنتاج مثل تلك التى أنتجت لهما «الشهد والدموع»، و«المال والبنون»، و«ليالى الحلمية»، و«الراية البيضا»، و«حسن أرابيسك»، وغيرها من الروائع التى كرست أفضل القيم التى يعيش عليها هذا الوطن؟

لماذا يتجه أبناؤنا إلى الولع بـ«ناصر الدسوقى» فى مقابل ولع جيلنا بـ«طه السماحى»؟

وما الثمن الذى يمكن أن ندفعه إذا كان مستقبل بلدنا فى أيدى هؤلاء الذين يتخذون من «ناصر الدسوقى»، و«عبده موتة» قدوة ورمزاً؟

وأخيراً سؤال مهم: هل تترك الدول والمجتمعات حركة الفن تمضى بدوافع السوق وإرادة المنتجين، أم ثمة جهود يجب أن تُبذل لضمان سوية فنية ملائمة للشخصية الوطنية، والطموح العام، والقيم التى يراد لها أن تسود؟

أنا لست متأكداً من أن نجلى، والملايين من أقرانه، سيتوقفون عن متابعة محمد رمضان وغيره من النجوم فى أعمال البلطجة والتدنى القيمى، كما أننى موقن أنه لا يمكن أن نعتمد فقط على تراث فنى محدود وفقير من ناحية الجاذبية و«التكنيك»، تم إنتاجه قبل ثلاثة أو أربعة عقود، لكى نعادل أثر الدراما الفاسدة.

إن ترك الساحة لمثل تلك المنتجات الفنية البائسة يمكن أن يقوض معظم جهود مؤسسات التنشئة والتعليم.

لا يمكن قبول دعاوى تطالب بفرض قيود على الإبداع، أو تحرض على الحجب والمنع، طالما أن القواعد الإنتاجية السائدة تقبل هذا النوع من الأعمال الدرامية، لكن البقاء من دون تصرف إزاء هذه المخاطر يعد نكوصاً وتخلياً عن المسئولية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل