المحتوى الرئيسى

«اشتباك» الوطن.. والخوارج

08/13 22:30

مما لا شك فيه أن الانحدار المؤسف فى مستوى السينما المصرية يعود فى المقام الأول إلى التراجع الملحوظ فى مستوى كتابة السيناريو والحوار.. لكن من المؤسف أيضاً أن يتماهى ذلك بشكل واضح مع سوء مستوى النقد والنقاد.. فاختفى الناقد الحقيقى اختفاء مريباً.. ذلك الناقد الذى يلقى الضوء على النص الدرامى ويحلله فكرياً وسياسياً واجتماعياً ونفسياً وفلسفياً.. ويفسر مغزاه ويستخلص منه العبرة والهدف.. ويفك رموزه ويضع يده على مفاتيحه ويكشف ملامح شخوصه وعلاقتهم بهموم المجتمع المعاش.. وصراعاتهم المتعددة ويعنى بمدى منطقية الأحداث وتصاعدها وصولاً إلى الذروة الدرامية.. اختفى الناقد الذى يشتبك مع المؤلف والمخرج فى الجدل المثمر حول الغرض من الدراما وسلبيات وإيجابيات الحبكة الدرامية بعناصرها المختلفة.. وظهر ناقد «العلاقات العامة» وناقد «العمود الانطباعى» والناقد «بالصدفة» والناقد «بالإلحاح».. والناقد «بالإحراج» والناقد «الحاقد والشتام» (وهو الذى فشل فى أن يكون مبدعاً.. فأصبح كارهاً للمؤلف والمخرج والدراما والفن والحياة كلها وتحول إلى ناقد).. وهناك أيضاً الناقد «الحنجورى» المبرراتى.. والناقد «إبراهيم الكهربائى».. فمن هو «إبراهيم الكهربائى».. ؟!

تقول النكتة إن رجلاً يقطن بحى شعبى يجلس على المقهى مع جيرانه الذين يمطرونه بوابل من السباب متهمين إياه بانعدام النخوة والمروءة والشرف.. فهو يترك زوجته تقيم علاقة آثمة مع إبراهيم الكهربائى بالحى على مرأى ومسمع من الجميع دون أن يحرك ساكناً أو ينتقم لشرفه المهدر.. فما كان من الرجل إلا أن صاح فى سخرية واستنكار «إبراهيم الكهربائى؟!.. علىّ النعمة ده ولد صايع ولا كهربائى ولا بيفهم حاجة فى الكهربا».. ومغزى النكتة كما هو واضح أن الرجل تهرب من المواجهة بالالتفاف حول الموضوع فى محاولة لصرف الأنظار عن الاتهام البشع بزنا زوجته بإثارة اتجاه آخر للحديث.. وعدم الغوص فى لب أو جوهر القضية بالتركيز على موضوع آخر.. وغالباً ما يكون هذا الموضوع ثانوياً وسطحياً أو يمثل مفهوماً مغلوطاً.. والدافع هو الجهل أو التخلص من مسئولية الكلمة.

ويشترك ناقد «العلاقات العامة» مع ناقد «العمود الانطباعى» فى استخدام جمل مطاطة وأقوال ممجوجة متكررة وأحكام سريعة مبتسرة وعبارات جوفاء لا معنى لها مثل «إفساد الذوق العام»، «بث قيم غير أخلاقية».. «أفكار هدامة تضر بالناس والمجتمع»، وكلها جمل صارت أكلاشيهات يعبرون بها عن غضبهم من أفلام معينة تتسم مثلاً بالإسفاف والابتزال أو السطحية والتفاهة، أو الانحطاط والبذاءة فى الحوار بين الشخصيات.

والحقيقة أن فيلم «اشتباك» المعروض حالياً فى دور العرض.. يمكننا من خلال سيل الكتابات النقدية المنشورة عنه أن نكتشف بسهولة أن معظم كتابها هم مزيج من كل أنواع النقاد الذين رصدتهم، فالنقاد «المبرراتية الحنجوريون» والنقاد «إبراهيم الكهربائى» يشتركون فى تعمد طرح سؤال استنكارى الغرض منه «إفحام» المثقفين الملاعين من أمثالنا الذين يتصدون لدحض محاولات فرض المصالحة «المشينة» مع الإخوان.. فيرددون فى تخابث «أليس الفيلم يجنح إلى الانتصار للبعد الإنسانى بعيداً عن البعد السياسى؟! ويعللون ذلك بتلك المشاهد المفتعلة داخل سيارة ترحيلات المحبوسين داخلها، مثل مشهد معالجة الممرضة «نيللى كريم» الإرهابى الإخوانى بتضميد جرحه.. ومشهد آخر لفتاة محجبة تريد أن تقضى حاجتها فيتعاون الجميع -رغم الدم الذى بينهم- ويساعدونها على إتمام ما تريده باتخاذهم وضعاً يحجب أنظارهم عنها.. وفى هذا مغالطة فادحة عبر عنها الناقد الكبير «سمير فريد»، مؤكداً أنه ليس هناك تعارض بين أن يكون الفيلم سياسياً وإنسانياً فى نفس الوقت.. وإذ لم يكن فيلماً عن المظاهرات المؤيدة والمعارضة لثورة (30) يونيو من الأفلام السياسية فماذا يكون الفيلم السياسى؟!..

أما الادعاء الساذج بأن البناء الدرامى للفيلم، من خلال استعراضنا لسلوك الشخصيات العشوائية من البشر التى تكوَّمت داخل عربة الترحيلات.. جنح إلى الوقوف على الحياد دون أن ينحاز المخرج والمؤلف إلى وجهة نظر أو إلى تيار سياسى بعينه.. فهو ادعاء لا ينقذ الفيلم من سطحية الطرح وفجاجة التناول وافتقار البناء الدرامى إلى الرسم الجيد للشخصيات، حيث تظل نماذج (كرتونية) ليست من لحم ودم فلم يتم تجسيد أبعادها النفسية والاجتماعية والإنسانية بطريقة تجعلنا نتوحد بها.. أو نتعاطف معها.. ومن ثم فهى لا تؤثر فى الأحداث ولا تساعد على دفعها إلى الأمام، وبالتالى فإنها لا تشكل صراعاً محتدماً يصل إلى ذروة درامية.. فيصبح الفيلم أقرب إلى الشريط الوثائقى..

لذلك فإنى أتفق تماماً مع الكاتب الكبير «خالد منتصر» فى قوله إن شخصيات الفيلم «مانيكانات» ترتدى أفكاراً.. والسينما فن وليست منشوراً.. ومغامرة وليست مظاهرة..

وفيما يتصل بدراما المكان الواحد الذى انبهر به النقاد الحنجوريون واعتبروا أنه يمثل عبقرية إخراجية تليق بالعرض فى «كان».. فى الحقيقة أنه جاء شكلاً خاوياً بلا مضمون لأن التفاعل بين الشخصيات فى الفيلم انحرف فى اتجاه الرغبة فى عقد المصالحة وإحداث التعايش بينهم.. وليس الصراع بين الأضداد كما فى فيلمى «بين السماء والأرض» و«أغنية على الممر» مثلاً وهو ما دفع ناقداً تبريرياً أن يعترف أن تحييد السياسية فى «اشتباك» قد يكون لأسباب تتعلق بمحاولة صناع الفيلم تمرير عمل له بصمة سياسية فى ظروف حساسة سياسياً ورقابياً (بالذمة ده كلام؟!.. فيه حاجة فى النقد أو الفن اسمها تحييد السياسة).

يقفز إلى الذهن بهذه المناسبة فيلم «أغنية على الممر» إخراج المبدع الكبير «على عبدالخالق» ليمثل مفارقة مدهشة تحسم فى جلاء تام «اشتباك» المتحاورين حول الفيلم..

فى «أغنية على الممر» خمسة جنود محاصرون فى أحد الممرات الاستراتيجية بالصحراء فى «سيناء» بعد استشهاد جميع زملائهم أثناء حرب (1967).. يرفضون التسليم.. يغوص الفيلم فى أحلام وتطلعات هؤلاء الجنود.. وتفاصيل حياتهم اليومية داخل الموقع.. واختلاف طموحاتهم وشخصياتهم ورؤيتهم للحاضر والمستقبل.. ومشاعرهم أثناء الحصار.. وهى مزيج من إحباطاتهم وذكرياتهم قبل الحرب وأمانيهم إذا ما عادوا من الحصار سالمين.. ويحكى كل منهم عن حياته ومعاناته الإنسانية وعثراته فى امتزاج بديع بين الخاص والعام، حيث يوحد بينهم همٌّ مشترك ومصير واحد هو مصير الوطن.. ويتعرضون فى النهاية لهجوم طائرات العدو ليستشهد ثلاثة منهم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل