المحتوى الرئيسى

إنقلاب تركيا وبنك الأهداف المختلفة

08/11 15:38

اقرأ أيضا: الشعوب حين تقاوم السقوط تلخيص الإبريز في وصف إبليس في ذكرى ميلادك سيدي الصوم وإرادة التغيير رمضان ..الشهر.. والعام.. والعمر. (١ـ ٣)

عندما شاعت أخبار الانقلاب التركي بين الجماهير وسمع الناس ورأوا "الرجب الطيب" من خلال، " Face time" كانت ذاكرة الشعب واعية’ ولم تصدمهم الأزمة أو تشل تفكيرهم فاستحضروا من تاريخهم معاناة الانقلابات وكربها وبؤسها’ فاستدعوا شجاعتهم ليهزموا الخوف وآلة القتل، وذهبوا بأجسامهم وهم يحملون أعلامهم ليوقفوا زحف هذا الشر الذي تسلل في ليل تركيا ليطفئ بظلامه كل ألق يضئ’ ومن باب رد الفعل قرر الأتراك أن يطاردوا الظلام القادم في غسق الليل الأسود، وقرروا أيضا أن تبقى المصابيح مضاءة.

بينما شكلت ذات الأخبار في بدايتها فرحة أثلجت صدور بعض دول المحيط الإقليمي وبعض دول الغرب وأنعشت بنك الأهداف الخاص بمصالح كل دولة، ولم يستطع البعض كتمانها حتى نهاية المشهد فتحدث عن انتفاضة شعبية’ وأعلن أنه يراقب الموقف عن كثب.

ومع أن الانقلاب قد وقع ضد حكومة ديموقراطية منتخبة طالما تغنى الغرب بضرورة احترامها’ وكان يفترض منذ البداية أن يعلن اعتراضه على من ينقبلون عليها ويصادرون حق الشعب في اختياراته’ إلا أن ذلك لم يحدث لأسباب ثلاثة:

أحدهم خطير. والثانى أكثر خطورة على بعض دول الغرب ذاته.

 أما السبب الثالث فيتصل بازدواجية المعايير التى تعود الغرب على ممارساتها تجاه دول الجنوب وما يشبهها من الدول غير أصحاب الدماء الأوربية النقية.

السبب الأول: أن الانقلاب هنا ليس في بيئة غربية خالصة يحرص الغرب كعادته على نقائها ديموقراطيا، ولا يسمح فيها بالاستبداد. بل العكس هو الصحيح’ فالانقلاب التركي وقع في بيئة تشكل له قلقا، وعلى قيادة تحاول الاستقلال في هذا البلد بالقرار دون أن تكون تحت وصاية الغرب نفسه’ ومثل هذه البيئة لا تسعد بعض دول الغرب باستقرارها أو استقلالها.

السبب الثاني: أن بعض دول الغرب لا ترحب في المنطقة بحاكم حر يملك قراره ويحافظ على مصالح شعبه ويجلس في المفاوضات مجلس المتمكن وفي موقع الند الذي يفرض احترامه’ و" أردوغان" ليس حاكما عاديا’ إنما هو حاكم يحب بلده ويعتز بهويته’ والأخطر من ذلك كله أنه يمثل مشروعا ديموقراطيا حقيقيا في المنطقة يمكن أن يكون نموذجا لتحرر حقيقي ينتقل وينتشر’ الأمر الذي يغل يد الغرب عن السيطرة في المنطقة والعبث فيها والانفراد بإدارة الصراع داخلها. 

أما السبب الثالث فيظهر بوضوح في ازدواجية المعايير التي تعود الغرب على ممارساتها تجاه دول الجنوب وما يشبهها من الدول غير أصحاب الدماء الأوربية النقية، ومن ثم فدول الغرب ومن يرتبطون به هم أول من يحرص على إفشال أي تجربة ديموقراطية صحيحة في المنطقة حتى لو شهد لها الغرب نفسه’ والشواهد على ذلك كثيرة ’ والديموقراطية وحقوق الإنسان تطبق لديه باحترام بالغ في دوله هو ، بينما تتحول إلى مجرد شعارات للتلويح بها والضغط على من يحاول الخروج عن القطيع’ في دول التبعية’ ومن هنا نفهم الفرحة المنقوصة التي قطع الشعب التركي بدايتها بوقوفه ضد الانقلاب’ ثم نغص على المشاهد المستمتع أو المشارك من الباطن والمترقب نهايتها بفشل هذا الانقلاب’ فكان المشهد فرحة لم تتم’ ونهاية زادت مرارة الشامتين علقما. 

وبما أن تركيا "أردوغان" هي حاجز الصد الذي يمنع الإرهاب من التمدد’ ويحول دون التوسع الطائفي 

الذي تشجعه أغلب القوى الكبرى وتسعى لتغليبه وسيطرته في مناطق السنة وعلى حساب أهلها’ فلنا أن نتصور حجم الدماء البريئة التي كان يمكن أن تراق’ وحجم الخراب الذي كان يمكن أن يحل بالأمة -لا قدر الله - لو أن هذا الانقلاب قد نجح. 

مفتاح الحركة وتوظيف الفراسة والفروسية. 

الشعب التركي عندما طرقت أخبار الانقلاب أسماع أبنائه كان نداء "الرجب الطيب، عبر Face time" كلمة السر ومفتاح الحركة فانطلقت صيحات المآذن بالتكبير والأذان في غير أوقات الصلاة ’ وأضيف إليها صوت طرق أواني المطبخ " ببعضها’ وبهاتين الوسيلتين استعمل الأتراك فراستهم وفروسيتهم القديمة. 

فبفراستهم’ حركوا الفطرة في الإنسان بصيحات المآذن’ وكانت وكلمات الآذان "الله أكبر" بالنسبة للأتراك تعنى في دلالتها أن الأمة حية ولم تمت’ برغم كثرة من حاولوا أن يغتالوها’ ولا زالت فاعلة’ وهي وحدها التي تقرر مَنْ يبقي ومن َيٌعَزل برغم كثرة من أرادوا أن يغيبوها.

وبصيحات المآذن وضجة الهتاف أدرك الناس أن الأمة في خطر’ فاستجاب الشعب التركي لنداء هويته ونظر إلى الحدث ببصره وبصيرته، فتلاقت وتوحدت الأحزاب كلها على ما كان بينها من خلافات أيديولوجية’ حيث أدركت أن الانقلاب الجديد لم يكن مجرد حدث يتغير به النظام السياسي، وإنما هو كارثة تهدد - إن استمرت - مستقبل كل حر’ فامتلأت شوارع المدن والقرى ترفرف عليها أعلام الوطن لتعلي من قدر الإنسان وقيمته في مواجهة قوى الهمجية’ التي أقدمت بقوة الدبابة على حماقة تغيير نظام منتخب ’واجبها الأصلي أن تحميه وتحتمى فيه’ فإذا بها تنقلب على عقبيها وتحاول أن تنقض عليه قاتلة بغير ضوابط ’ومدمرة بغير قيود أو حدود.

هنا ظهر ما يسميه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 - 1937) بالمثقف العضوي ممثلا في أحزاب المعارضة 

- وهو المثقف الذي يٌقَدِمٌ في كل أزمة مصلحة الوطن ولا يمارس البراجماتية ليحقق مصالحه الخاصة ووبذلك أثبت رجال الأحزاب الذين تحاملوا على جراحهم’ وسموْا فوق خلافاتهم’ وأبوا أن يكونوا إمعات تحركهم بيادة’ أثبتوا أنهم يستحقون التحية والتقدير’ لأنهم قرروا الانحياز لاختيارات شعبهم، فوقفوا بجانب الشرعية والديموقراطية.. 

,لم يكن الوعي السياسي بخطورة الانقلاب قاصرا على أحزاب المعارضة فقط’ فقد هب الأتراك كلهم في لحظات الخطر ووقفوا الموقف المطلوب، فأضافوا إلى رؤية غرامشي مفهوما جديدا وهو"المواطن العضوي" بدل المثقف العضوي ليكون التأثير عاما وليس مقصورا على نخبة’ فأوقفوا الكارثة القادمة من خلف الظلام بسلاح الحقد والتآمر، وسيطرة الجشع، والرغبة المجنونة في اغتصاب السلطة وتكميم الأفواه بدبابة صماء لا تعرف غير القتل والتدمير.

الوعي الجمعي عند الشعوب هو فيصل التفرقة بين ما يقبل فيه الخلاف’ وبين ما هو مرفوض ومجرم’ ,وقد خلق هذا الوعي في تركيا نوعا من الإجماع السياسي على رفض الانقلاب 

وبهذا الوعي الجمعي أضاف الشعب التركي فروقا جوهرية بين الحرية والاستبداد’

وبهذا الإدراك العالي في تركيا انتصر الوعي على الخبث والمكر، وانتصرت الحرية على الاستبداد والقهر، وانتصرت قيم الأمة على أطماع وجشع أصحاب المصالح، وانتصرت إرادة الفرد على الطائرة حين تغدر وتخون، وعلى الدبابة حين تعتدى’ وتستعمل في غير ميدانها

في الجانب الآخر ظهر بعض نخب العرب الأغبياء الذين شمتوا في أردوغان في بداية الانقلاب’ 

ففتحوا أنابيب قذارة إعلام الغواية والغدر السياسي’ وكان المشهد بائسا إلى أقصى حدود التصور’ تجلى ذلك في عدد من التصريحات والتحليلات عكست حالة من المسخ البشري المهين’ وكان أكثر مظاهرها سخرية ومهانة أربع صور مشينة خلعت كل ثوب للحياء.

أول هذه الصور: حين أمسك ذووا العته العقلي بأقلامهم ليكتبوا في تحليل الأحداث وتوجيه الناس وتذكيرهم بمساوئ الاحتلال العثماني، وكأن أردوغان أعاد جيش سلاطين بني عثمان ليعيد احتلال الدنيا من جديد’ وبدا أن ما يعنيهم هو ذهاب "أرد وغان" ولو سقطت الأمة بأثرها. وبهذا أثبتت تلك الشاشات أنها في واد والناس والزمان والمكان في واد آخر’ وكان لهذا العته الإعلامي عار السبق في تسجيل أكبر فضائح العصر. 

والصورة الثانية: حين أضافت تلك الفضائيات إلى أكبر الفضائح أكبر مقابح المرحلة أيضا’عندما وكلت إلى اللصوص مهمة شرح القانون والتهكم على الشرفاء والتنكيل بهم’ وشرح مآلات المستقبل بعد أردوغان.

وثالثة الأثافي رؤية ذوي العاهات الخلقية والمطعون في عفتهم وعفتهن وهن يشرحن - صحيح الدين في نظرهن - ليربطوه بما يجري في تركيا’ وأن ما جرى كان عقابا من الله للرئيس التركي لمواقفه من بعض الأنظمة الدكتاتورية. لم يتحدثوا طبعا عن توفيق الله في نجاح النهايات 

عكست المشاهد الثلاثة صورا من البؤس الأخلاقي بدا كأنه عقاب أليم للبشر حين تتسلط على عقولهم شاشة فضائية يسكنها شخص معتوه - مكانه الطبيعي في مصحات نفسية وعقلية وأخلاقية – تعيد إليه شرفه المفقود وإنسانيته المضيعة’ وتعلمه أن للناس شرفا لا يباع’ وأن لهم عقولا لا تستغفل’ وأنه من سوء الطالع الشعبي أن يٌفْرَضَ عليك إعلام يعاني الغباء والبؤس واليأس مثل هذا الكائن ومثل هذه الشاشة.

ثم كانت رابعة السقوط عندما تهاوي ساقطا حتى النخاع إعلام الغواية والغدر السياسي إلى مستوى من الانحطاط غير مسبوق’ ففي غمرة الشماتة ب"أردوغان" تناول إعلام الخيبة دولا لها مواقف مبدئية ولها حضور حي وكبير’ كما خاض في أعراض شريفة’ وتناول من تلك الدولة رؤوسا ورموزا أصيلة القدر والقيمة’ ما كان لرأس مثله أن يصل إلى مستوى أحذيتها ولو تطاول ملايين المرات.

عند مشاهدتك لأحدهم تشعر أنك أمام حالة من الخسة لا تعرفها الطبيعة الإنسانية السوية في أدبها وتربيتها’ فضلا عن مروءة العرب’ وينتابك شعور بالتقيؤ’ كما يتهيأ لك أن فترة المشاهدة التعيسة كانت نوعا من العقاب لذنب فعلته ’ فعاقبك ربك عليه’ بمشاهدة هؤلاء حتى استغاث أحد الظرفاء بربه بعد رؤية حلقة لواحد منهم قائلا: اللهم اغفر لنا ...وارحمنا إذا ساد البغال.

على الضفة الأخرى تألق الإعلام التركي وأثبت المهنية والمصداقية حين رفض الخضوع للدبابة وقرر أن يكون سندا لإرادة شعبه وللحرية عونا ونصيرا.

تركيا في تلك الليلة’ ليلة السادس عشر من يوليو خرجت فوق الزمان ولم تكن فيه بحساب الدقائق والساعات، فإرادة الشعب منذ لحظات الانقلاب الأولي قررت أن تحاصر الجناة وجنايتهم في كل ميدان وشارع، ورفضت أن تسرق منها الحرية مرة أخرى ومن ثم فالسادس عشر ليس يوما من أيام التاريخ فقط ’بل هومن أيام الله في حياة الشعب التركي يشهد له بالقدرة على استعادة صور الكبار وهم يصنعون لأمتهم أمجادها لتأخذ مكانها بين أيام التاريخ ولياليه.

وكان نداء أردوغان الملهم عبرFaceTime)) - وفي قناة معارضة - كلمة السر ومفتاح الحركة، فانطلق شعب ذاق طعم الحرية ليدافع عنها وينتصر لها، وبذلك ضرب الأتراك للعالم الحر مثلا ونموذجا في معرفة القيم ومعناها، حيث أعادوا ترتيب منظومة الحرية ثقافة وسلوكا، لتكون الحرية في الترتيب هي قِبْلة الحياة وقبلها، ولتكون الكرامة قبل الخبز، وليصبح الشعار عندهم - وعلى غير عادة الشعوب في الدنيا كلها - "حرية، حياة، كرامة، عيش"

قانون الأخلاق هو الحكم بين النظام والفوضى. 

قانون الأخلاق في أعلى تجلياته كان هو الحكم بين النظام والفوضى، وكان هو الفاصل بين الخير كله 

والشر كله، بين الحرية والاستبداد، بين الحق البصير والقوة العمياء’ بين شعب متحضر ذي بصيرة، وبين غريزة وحش حركته أنياب القوة، فاختار الأتراك قانون الأخلاق ليبقى لوطنهم وصف العظمة الحضارية حين تتألق في الشدائد والمحن، وليبقي لشعبهم وصف البطولة في مواجهة المخاطر، مهما كان الثمن وما يبلغ فيه من تضحيات.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل