المحتوى الرئيسى

انغمار بيرغمان والموت

08/10 16:56

اللقطة الافتتاحية من فيلم الختم السابع:

خارجي - على شاطئ البحر - نهار

بين الصخور، على شاطئ البحر، نشاهد فارساً للتو عائداً من إحدى الحروب الصليبية مضطجعاً وأمامه لوح الشطرنج، ثم نشاهد الموت يتجسد شخصياً، ويقف الاثنان وجهاً لوجه:

الفارس: هل أنت هنا لأجلي؟!

الموت: لفترة من الزمن أمشي بجانبك وأتبع خطواتك..

الفارس: جسدي مُستعد.. ولكن نفسي غير مستعدة..

الموت يقترب جداً من الفارس.

الموت: جميعكم يقول ذلك.. ولكني لا أمنح أي تأجيل.

الفارس: هل تلعب الشطرنج؟ أعرف أنك تتقنها..

الفارس: شاهدتك تلعبها في لوحات فنية وسمعت عن قدراتك في قصائد مغناة.

الموت: نعم.. أنا بالفعل لاعب ماهر..

الفارس: لكن.. لا أعتقد أنك تتقن الشطرنج أكثر مني..!

ثم يبدأ تحدي الشطرنج بين الفارس والموت تحت شرطٍ واحد؛ أن يظل الفارس على قيد الحياة طيلة فترة امتداد المباراة وإذا فاز الفارس لا بد على الموت أن يطلقه حراً....

وجهٌ شديد البياض، ومعطفٌ أسودٌ طويل، سحنة الموت التي تتكرر دائماً في السينما والتلفزيون، أحياناً نشاهدها كشخصية حية تأخذ الأرواح في أفلام الرعب، وأحياناً أخرى بشكل ساخر كما في فيلم وودي آلين "الموت والحب". الصانع الحقيقي لهذه الشخصية هو المخرج السويدي إنغمار بيرغمان، الصورة التي استوحاها إنغمار بيرغمان عن الموت كانت -وما زالت- واحدة من أهم أيقونات السينما العالمية، ولكن علاقة بيرغمان بالموت تمتد إلى مرحلة شبابه حتى وفاته، وفي ذلك يقول الكاتب جون هولمبرغ:

الموت -كموضوع درامي- يتكرر بشكل مكثف ودائم في سينما انغمار بيرغمان، ولكنه يتكرر بشكل صعب ونادر في أعمال المخرجين الآخرين. فإذا أخذنا فيلماً نوعه أكشن من هوليوود وأقمنا مقارنة سريعة، نجد أن عدد البشر الذين يموتون في هذا الفيلم الواحد يفوق عدد كل الشخصيات التي ماتت في كل أفلام بيرغمان مجتمعة.

أي إن بيرغمان يواجه الموت ويخوض في أعمق معانيه ودلالاته، وبالتالي ثيم الموت جزء جوهري في تكوين عالم المخرج انغمار بيرغمان السينمائي، وبعض الفضل يعود إلى النجاح الكبير الذي حققته شخصية الموت من فيلم "الختم السابع"، ومنها انتشرت هذه الشخصية واستولت على التلفزيون والسينما والمجلات المصورة، ولكن فعلياً ارتباط تفاصيل شكل الموت وبيرغمان ابتدأ من قبل عرض ذلك الفيلم بكثير.

أظهرت الباحثة مريت كوسكنين، الخبيرة في تاريخ انغمار بيرغمان، مادة أدبية نثرية لم تُنشر من قبل، مكتوبة بخط اليد من تأليف انغمار بيرغمان عندما كان يبلغ من العمر 20 عاماً، ومكونة من إحدى عشرة صفحة، في هذه القصة النثرية نكتشف ميلاد صورة قديمة جداً عن شكل الموت التي يتم تجسيدها فيما بعد في فيلم "الختم السابع". بيرغمان -وبوعي تام- يقوم بمحاكاة أسلوب الشاعر إدغار آلان بو في هذه القطعة القصصية تحت عنوان "حكاية غريبة".

القصة مشحونة عاطفياً، تدور أحداثها عبر راوٍ مجهول يصادف بالخطأ امرأة جميلة وذات رائحة زكية في محل لبيع الزهور، ولكنه يكتشف أنها مومسة باغية، وأرملة لديها طفل، ومدمنة مخدرات عن طريق الحقن. وبعد مرور زمن ٍ قصير، يجدها الراوي مقتولة بعد أن تم تعنيفها بالضرب على يد أحد الزبائن. جارتها عجوز ثرثارة، تقول للراوي واصفة آخر لقاء:

"ليلة البارحة، قابلتها وهي تصعد الدرج مع رجلٍ غريب. عندما لمحت الرجل شعر جسدي بفزعة خوف. كانت سحنته شديدة البياض لدرجة أني لم أستطيع أن أرى إن كان له عينان. عليه قبعة كبيرة مرنة، ويرتدي معطفاً أسود طويلاً".

وفي النهاية، يخرج الراوي إلى أحد الشوارع جاعلاً طوق قيده العاطفي يقف ضد "عواصف الخريف والمطر". وعندما يصل الراوي إلى المرأة الميتة، يقوم بمسح جبينها، ثم قال:

"أيتها المسكينة الضعيفة، كنت أفكر كثيراً، إنكِ مومسة تعمل في خدمة الموت، ها هو ذا قد دفع لكِ أجركِ على طريقته".

تلك كانت اللحظة الأولى، النشأة التي يظهر فيها الموت كشخصية حية ومكتوبة في عالم بيرغمان، وأما الموت يتجسد كشخصية مرئية، كما نعرفها، فقد تم ذلك مرات كثيرة قبل وبعد عرض فيلم "الختم السابع". مثلاً قبل ذلك، في فيلم "فاصلة الصيف"، وقبل أن تفقد شخصية "ماريا" زوجها الذي توفي عن طريق الخطأ عبر اصطدامه بمجموعة من الصخور، نشاهد شخصية الموت وسحنتها تتجسد كامرأة وجهها شديد البياض.

الإشارة الأولى التي ورد فيها الموت مشابهاً تماماً لشخصية الموت في "الختم السابع" كانت عبارة عن مسودة مسرحية تتكون من فصل واحد بعنوان "صبغ الخشب"، وهذا النص السردي يحتوي على لقطة فيها يجتمع الموت كشخصية حية مع فارس عسكري، للتو عائد من إحدى الحروب الصليبية، وتم استخدام هذه اللقطة كما هي في ثلاث نسخ متشابهة نوعياً داخل عالم بيرغمان - أشهرهن هي اللقطة الافتتاحية من فيلم "الختم السابع"* - وبعد ذلك، في إحدى المسرحيات التي من تأليف انغمار بيرغمان بعنوان "ضربة القتل"، فيها يتجسد الموت كشخصية حية عندما يقوم بالالتقاء مع ممثل مسرحي بائس. ومن المثير للاهتمام، ملاحظة أن بيرغمان قام بعرض مسرحيته المذكورة بالأعلى في الشهر الرابع - أبريل/نيسان - من عام 1956 ميلادي، وفي المقابل وبعد شهرين، نجد التاريخ الموثق حول الانتهاء من كتابة سيناريو "الختم السابع" كان في خمسة من يونيو/حزيران - عام 1956م.

ومن المشوق، معرفة أن الممثل ماكس فان سايدو قام بتجسيد دور إينفر - الممثل البائس الذي يأتي الموت لزيارته وهو نفسه أيضاً من قام بتأدية دور الفارس العائد من الحروب الصليبية والذي يقع في مواجهة مع شخصية الموت في فيلم "الختم السابع"*. أي إن الممثل نفسه قام بتأدية هذين الدورين؛ الأولى للشخصيتين التي تقع في مواجهة الموت رغم اختلاف طبيعتهم التكوينية.

والأصل الذي ألهَمَ بيرغمان، هو التأثر بالفن المسرحي في العصور الوسطى، وتحديداً المسرح الذي ناقش إشكالية الأخلاق في العصور المظلمة، وتوجد مسرحية شعبية قديمة جداً لها خط تصاعدي واحد وهو أنَ أي من يوصف بالبطل يعرف جيداً أن الموت قريبٌ منه ويجب عليه أن يدعو بقنوت أن يُمنحَ حياةً أطول. وفي عام 1911 ميلادي، قام هوغو فون هوفمانستال بإعادة تأليف تلك المسرحية القديمة بأسلوب حديث تحت عنوان "جويدرمنن".

فيلم "فاصلة الصيف" من عام 1951

هذا البحث الاستكشافي حول عنصر الموت في عدد من المسرحيات والأعمال القديمة لانغمار بيرغمان التي بلغت ذروتها الفنية في فيلم "الختم السابع" هي النتيجة التي جعلته يواجه الخوف من الموت وسخطه؛ بل إنها ساعدته على فهم وإدراك وتشخيص منابع هذه المخاوف. وكل ذلك لم يمنعه من المواصلة في السماح لنفسه بتجسيد الموت في أعماله اللاحقة؛ مثل مسرحياته في دار الأوبرا السويدية والمسرح الملكي الدرامي، وفيهما قام بإعادة تجسيد -وبشكل مقلق- الشخصية الشديدة البياض في صورة فوق بشرية، وفي عمل آخر حضر الموت كشخصية ترتدي زي البهلوان، وفي مرة أخرى قام بتقديم الموت على شكل امرأة مهرجة ذات المكياج الأبيض المكثف لتطلب من إحدى الشخصيات ما يطلبه البشر من البشر منزهة من كل التابوهات ومشتقاتها.

وفي مسرحية بيرغمان الأخيرة بعنوان "ثلاث مذكرات شخصية" وهي من تأليفه بالتعاون مع ابنتهِ ماريا ڤون روزين وتم اقتباس النص من مذكرات إينجارد في الأشهر الأخيرة قبل وفاتها وهي زوجة بيرغمان ووالدة ابنته ماريا، ليصبح بذلك آخر أعماله المسرحية عن الموت من تأليف عائلي جماعي.

مرة أخرى شخصية شديدة البياض من فيلم "حضور المهرج" عام 1997

وبالمقابل في فيلم بيرغمان الأخير "سارة بوند"، لا يتجسد الموت كشخصية حية، ولكنه رغماً عن ذلك طُرح الموت في الفيلم كموضوع درامي للنقاش والتأمل، وتم تقديم الموت على أنه أمرٌ قريب لا بد أن يواجهه كل البشر، ويستحيل الهروب منه، كما تبدأ الأشياء من العدم لا بد من أن تنتهى بالزوال.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل