المحتوى الرئيسى

مكابدة التكيف الثقافى فى «جميل الروح» | المصري اليوم

08/07 00:47

لا تصدُق كلمة المكابدة التى تجسم عذاب المعاناة على تجربة الراوى الحميمة فى رواية الكاتب الشاب أحمد فرج «جميل الروح» فحسب، بقدر ما تعبر عن محنتى فى قراءتها لكثرة الأخطاء النحوية واللغوية التى تضرس بها أسنانى وتملأ فمى بالحصى خلال القراءة مما يتجاوز كل حد مسموح به، ويلقى باللوم على الكاتب ودار النشر معا لتقصيرهما الشديد فى تلافى ذلك. وأخشى أن تكون سياسة «دار الثقافة الجديدة» ناشرة الرواية والمبدع الكبير صنع الله إبراهيم هى الاستهانة بالمستوى اللغوى إلى هذا الحد الفاضح. وقد أوشكت أكثر من مرة على طرح الرواية جانباً وإهمال استكمالها نتيجة لذلك لولا ما لمحته فى سردها من فطنة ذكية فى التقاط تفاصيل الحياة وتصوير دينامية الحركة وتجسيد ملامح الشخصيات والمواقف النفسية مع ضبط إيقاع السرد فى نقلات مقطعية رشيقة، مما يعوض هذا الفقر الشديد فى لغة التواصل، ويمنح النص بهاءً تقنياً يغطى على خشونته الأسلوبية، وإن ظلت إشكالية المستوى اللغوى فى الرواية القائم على التعبير التواصلى المباشر الذى أشبهه دائما بمنديل الورق، إذ تتخلص منه بمجرد استعماله، فى مقابل اللغة البليغة المجازية الوثيرة، التى أشبهها بالمنديل الحريرى الذى يطيب لك تحسس ملمسه أكثر من مرة دون التعرض للتلف، فشعرية السرد بقدر ما تتمثل فى الإتقان الفنى المكتمل تتجلى أيضاً فى ثراء اللغة وبكارتها متى يحلو للقارئ استحلابها وتكرار قراءتها واعتصار ما فيها من فكر وفن وفلسفة وجمال.

ونعود إلى رواية «جميل الروح» لنلاحظ المفارقة الأولى فيها، وهى أنها تؤكد ما تحاول نفيه، إذ تقول: «هذه الرواية ليست سيرة ذاتية، ولكنها مستوحاة من تجارب واقعية وأماكن حقيقية، وشخصياتها مستوحاة من شخصيات أثرت فى حياتى.. هذه الرواية تجسيد أحلام (!!) وأفكار(!!)»، إلى آخر النص قبل أن تضرس أسنان القارئ بأخطائه.. فهى فى نهاية الأمر سيرة مدمجة من عناصر متفرقة فى الواقع مثل أى كتابة أدبية، لا تخرج عن منطقه ولا تحيد عن منظور الراوى الذى تأتى على لسانه، بيد أنها تلجأ إلى وسيلة يسيرة فى الجمع بين صيغتين فى السرد، إذ تروى بعض المقاطع بضمير المتكلم بلسان (على) وهو شاب مصرى طموح، متوسط المواهب، يمدح نفسه بأنه (جميل الروح)، يسافر للدراسة فى سويسرا والإقامة فى بيت الطلاب خلال أربع سنوات، ثم تنتقل فى مقاطع أخرى إلى الراوى العليم الذى يتولى توسيع المنظور ليحكى بحرية أكثر ما حدث لعلى دون أن يستطيع تجاوز أفق الراوى المتكلم، أو النفاذ إلى أعماق الشخوص الأخرى كما يتوقع منه. هذا التناوب لا يكاد يشعر به القارئ غير المدرب لأنه لا يضيف كثيراً للبؤرة التى يتركز حولها السرد، وهى على وجه التحديد التطور الذى يحدث لعلى منذ أن وضع روشتة حياته، أو جدول سلوكه فى ورقة علقها فوق مكتبه ليلتزم بها، وتتلخص فى أن يدرس بكامل طاقته ليصبح أفضل طالب، ويبتعد تماما عن الخمر والبنات والعلاقات، ويحافظ على الصلاة وقراءة القرآن، ويمارس الرياضة، ويجد عملاً فى سويسرا كى لا يعود إلى مصر. وتتولى صفحات الرواية بعد ذلك شرح كيفية ومراحل خروجه المنظم على مجمل هذه التعليمات، بحيث لا يبقى منها فى نهاية الأمر سوى الحفاظ على الضمير الأخلاقى والوعى الدراسى والوازع الدينى والتطور الحضارى، الذى يتيح له ممارسة الحياة بتنوعها الثقافى الخصب، ومفاهيمها الجديدة المتحررة.

ونراه يُجمل أحيانا عرض قضية خطيرة فى سطور وجيزة خلال محاوراته مع رفاقه، فيحكى مثلاً على لسان زميله الإيطالى ماركو صورة الإسلام المشوهة فى الغرب، من أنه يعتمد على الجهاد وحرب المخالفين له، وكيف أنه يأمر بقطع لسان الكاذب وإخصاء الزانى وفقء عين من ينظر إلى المرأة مع اعتبارها كائناً ناقصاً، وغير ذلك من الترهات المكذوبة، إلى جانب أنه لم يتطور مثل الأديان الأخرى، فمازال يعتمد على الخرافات المنافية للعقل، مثل الجن والملائكة والشياطين وملايين الحور العين، وغير ذلك من الغيبيات التى يحرص عليها بخلاف ما حدث فى الغرب من نزعات عقلية وعلمانية، وتتولى صفحات الرواية بعد ذلك تقديم نماذج من المصريين والعرب فى الخارج يسىء بعضهم لهذه الصورة المشوهة أصلاً، ولا ينجح البعض الآخر فى تقديم النموذج الأمثل للشخصية العربية مما يعزز الصورة النمطية السائدة.

لم تعد فتنة وصف مظاهر الاختلاف ومباهج الحرية فى الحياة الغربية هى التى تدهشنا فى الروايات التى تقع فى هذه البؤرة الساخنة، بل أضحى نجاحها مرتبطاً بمدى قدرتها على تذويب الرحيق الثقافى للتقدم الحضارى لهذه الشعوب وتقطيره بمهارة فى سطورها.

فبقدر استيعاب أصوات الرواية فى تحولاتهم الداخلية للروح النقدى والفكر العلمى والتوجه المستقبلى وتخلصهم من العادات التى تعوق تحرر أجسامهم وأرواحهم، يصبح تمثيلهم الجمالى للتفاعل الخلاق بين الثقافات جلياً وفعالاً، وقد تجلى بعض ذلك فى روايتنا وغاب بعضه الآخر، فهو يقدم مثلاً نقداً ذاتياً على لسان بعض أصدقائه من السويسريين لحياتهم.. إذ يقول فى حواره مع على «إن سويسرا صنعت حياتها وحيادها على أوجاع الآخرين.. فخلال الحرب العالمية الثانية حرق هتلر اليهود وصادر بيوتهم ومتاجرهم ووضع أموالهم فى حسابات بالبنوك السويسرية، وبعد أن هُزم هتلر أراد اليهود استرداد أموالهم فاستحال ذلك عليهم.. فسويسرا من دول عدم الانحياز، وهى مقر الصليب الأحمر وحقوق الإنسان وتساند حقوق المرأة وتناهض الديكتاتوريات، ولكنها لا ترى أى غضاضة فى فتح بنوكها للحكام الطغاة الذين يسرقون أموال شعوبهم بل وتقبل الأموال المتدفقة من الأسلحة والمخدرات، فيقوى الاقتصاد السويسرى وينعم الشعب بأموال الفقراء والمساكين»، ويحلل الراوى بطريقة سردية ناجحة أسباب انتصار الرأى الرافض لإقامة المآذن فى الاستفتاء الذى أُجرى لذلك.

وعندما يدفع الكاتب براويه إلى خوض تجربة شخصية مثيرة فى زيارة مدينة «تزوج» بلدة صديقته ماريا التى نجحت فى تحريره من ضغوط الكبت والتقاليد العربية، تستضيفه فى بيت عائلتها ويشاركها غرفة النوم المجاورة لغرفة أمها وأختها دون حرج، ثم تأخذه لزيارة «لوتسيرن» ورؤية جسورها وبرج الماء المعلق فيها ونفائس آثارها وكنائسها، وتدعوه إلى تأمل تمثال الأسد المحتضر وتروى له قصته الطريفة، حيث قام بنحته فى الجبل فنان هولندى كبير تخليدا لذكرى سبعمائة جندى سويسرى كانوا مكلفين بحراسة قصر التوليرى الذى كان يقطنه الملك لويس السادس عشر، خلال الثورة الفرنسية، حيث تغلب عليهم الثوار وذبحوهم جميعاً.. هذه المذبحة أثرت كثيراً على أهالى المدينة من أقربائهم فقرروا نحت تمثال الأسد وهو يصارع الموت، كنايةً عن شجاعة أبنائهم وموتهم بشرف فى أرض المعركة، فالتجوال فى المدن وصداقة أبنائها وبناتها ليس مجرد إحداثيات روائية مفعمة بالحركة والحيوية فحسب، بل هى مناسبة لاستقطار مخزون الوعى التاريخى والحس الجمالى والفنى، والتعبير عن الولع بالطبيعة والقدرة على تأمل التاريخ، مما يشكل الرحيق الثقافى والعصارة المعرفية للعمل الإبداعى.

ويبقى لنا أن نلقى نظرة عجلى على الهيكل الأساسى لمسار الرواية العاطفى فى سلسلة علاقات على المتوترة بالنساء والشباب معه فى بيت الطلاب، وأبرزها علاقته بماريا هذه، طالبة الموسيقى ومغنية الأوبرا التى نجحت فى تحريره من عاداته على وقع أغنية «الحب عصفور متمرد» ثم ضاقت بطريقته الشرقية فى محاولة فرض الوصاية الذكورية عليها، فقررت هجره وطعنته فى كرامته، ومع أنها ندمت على ذلك وحاولت العودة إليه، غير أن نخوته العربية منعته من الاستجابة لها. حلت محلها فتاة ألمانية أخرى «أيما» شغوفة بدراسة الحياة العربية، تسافر إلى القاهرة ويلحق بها على فى إجازة نصف العام، يتصادف مع ذلك اشتعال ثورة يناير فيستضيفها على بإذن من أبويه لحمايتها خلال الثورة، تصبح أحداث التحرير جزءا من فصول الرواية. ريثما تعود أيما وعلى مرة أخرى إلى جنيف، تظل المفارقة اللافتة هى شغف أيما بعلى الذى يتردد فى الاعتراف لها بحبه خوفاً من تكرار تجربة ماريا.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل