المحتوى الرئيسى

نجيب.. يُجيب | المصري اليوم

08/06 01:14

وكأنها ليست المرة الأولى التي التقي فيها مع اللواء محمد نجيب.. لماذا أشعر بأننا تحاورنا من قبلُ علما بأن اللقاء نصيب؟ رغم كوني لا أعرف عنه سوى ظهوره في وقت عصيب.. حين وَثِقت فيه الجموع وحُملَ على الأعناق في مشهد مُهيب.. وأضحت الأمة تؤكد أنه رجل لنداء تحمل الأمانة يُجيب.. وعند استدعاء القادة لتقدم الصفوف كان أبدا لا يغيب.

بادرني هو بالحديث وسألني: ماذا تريد؟ لماذا تقتحمُ عليّ عُزلتي بعد عمر مديد.. هل تذكرتم الآن أن تُنصفوا من كانت تُعزفُ له الأناشيد.. أعتقد أن شبابكم بالكاد يعرفون اسمي دون المزيد.. فقد طمستم ذكري من تاريخكم، وكُنتُم هنا ممن يُجيد.. بعدما كنتُ يوما مُتوجا من أعلى البحر إلى أقصى الصعيد... آه على زمن لم أنَل منه في نهاياتي إلا التجاعيد.

فقلتُ له: يا فندم المقامات دائما محفوظة.. وإن كان لي أكثر من سؤال وملحوظة.

يُقال إنك خذلتَ الثورة ولم تُحافظ عليها كما الآخرون.. وإنك كنتَ مُطمئن البال، وهم لم تُغمضُ لهم جُفون.. وظننتَ أن أهداف الثورة ستتحقق على يد من قاموا بها أو بدون.. وهناك من يتهمكُ بعلمك المسبق بحادثة المنشية وإن بدت عليكَ علامات السكون.. وأنك كنت دائم الغضب من اهتمامٍ بعبدالناصر يفوقُ رئيس الجمهورية المَصُون.

فقاطعني غاضبا: لولا قبولي لدعم حركة الضباط لما كُتبَ للثورة النجاح.. هل تدري كم من الضباط كانت رِقابُهم سَتُستباح.. كنتُ أؤمنُ أن عدم انشغال الجيش بالصراع على السلطة هو عين الفَلَاح.. أنا كنتُ لطريقهم إلى أبواب التاريخ بمثابة المفتاح.. ولا استغربُ من يؤكدُ علميَ المسبق بمؤامرة المنشية، وأبداً لن ينتهي النُباح.. علما بأنني لم أكن رئيس جمهورية إلا في الصحافة، وليس كل الكلام مُباح.. عموما أكمل ما لديك من سخافات، وزِد مما لديك من اتهامات لعلك ترتاح.

فسألتُه: ألم تهدد مجلس قيادة الثورة بالاستقالة وصحت فيهم (وليكن ما يكون)؟ واكتفيتَ في بعض الأحيان بالوقوف أمام الكاميرات بزيك العسكري تُدخن الغليون.. بالتأكيد أن الأمر لم يصل إلى درجة شعور عظمة البارون.. لكن التعامل مع ضباط استغاثوا بك قبل سنتين أمسى ضربا من الجُنون.

فأجابني والحسرةُ تُسيطر على ملامحه الأبية.. دعني أُعِيدُ تقديم نفسي لأجيالكم بطريقة تاريخية.. أنا من تخرجتُ عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر في المدرسة الحربية.. ثم التحقتُ للخدمة بالحرس الملكي بعدها بخمس سنوات ميلادية.

أنا أولُ ضابط عسكري في مصر ينالُ ليسانس الحقوق عام سبعة وعشرين.. أسستُ مجلة الجيش المصري بعدها بعشر من السنين.. تقدمتُ باستقالتي عقب واقعة الرابع من فبراير عام اثنين وأربعين.. لأنني لم أستطع حماية الملك مَن أقسمنا له الولاءَ باليمين.. حين حاصرت دباباتُ الاحتلال البريطاني قصرَ عابدين.. وأرغمت العرشَ على إعادة النحاس باشا لرئاسة الحكومة بشكل مهين.. لم تُقبل استقالتي وعُينت بَعدها حاكما إقليميا لسيناء عام أربعة وأربعين.. مُنحتُ نَجمة فؤاد العسكرية بعد إصابتي سبع مرات في حرب فلسطين.

عام واحد وخمسين كنتُ قائدا لسلاح المشاة المصري.. وقبيل الثورة اُنتُخِبتُ رئيسا لنادي الضباط في مشهد نَدِي.. إلا أن القصر قام بإلغاء الانتخابات معتقدا أنّ فوزي وراءه شيء خَفي.. وبعدها كان قرارنا بسرعة تنفيذ ما عقدنا العزم عليه بعهد وَفِي.

وتحركَت الضباط في الثالث والعشرين من يوليو وتفاجأ الجميع.. وحظيتْ الحركةُ بدعم المصريين وبَارَكَها الكهلُ والرضيع.. باستنثاء مجموعة مِن الأثرياء تَصدوا للثورة بحملة من التشنيع.. إلا أن محاولات تقليص الخلاف بيني وبين مجلس الثورة وصلتْ لسد مَنيع.

فقد كنتُ أصرُ على تسليم السلطة لتيار مدني في أقرب فرصة.. لكنني فُوجئتُ بأن مجلس الثورة يرى أن بقائه في مشهد السلطة مرهون باستكمال النُصْرَة.. وتوالت الخلافات بعدها بيني وبينهم بوتيرات مُتَرَاصة.. وأصبح أقل ما يُقالُ من الطرفين إن في الحلق غُصَّة.

أما يوم الرابع عشر من نوفمبر عام أربعة وخمسين فهو يوم لدَي أسود.. عبدالحكيم عامر يقتحم مكتبي ويُبلغني بإعفائي من منصب رئيس الجمهورية وهنا الجميعُ خالفَ ما أوْعَد.... ووُضعتُ تحت الإقامة الجبرية في فيلا بالمرج وكدتُ بالثورة أجْحَد. وظللتُ حبيسا طيلة ثلاثين عاما ولم أكنْ بالإفراج أسْعَد.. لأن المرض وقسوة الزمن تمكّنَا مِني فباتتْ الابتسامةُ أبْعَد.

حالِي يا بُني هو حالُ غيري مِمن دَاسَ عليهم التاريخ بالأقْدَام.. فالتاريخ في بلادنا يُكتب بالهوى وعندَهُ لكلٍ مَقالٍ مَقام.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل