المحتوى الرئيسى

إرث زويل التراجيدى | المصري اليوم

08/06 00:30

كنا فى صيف 2012، وسط موجة جديدة من خماسين «الربيع المصرى». كان مرشح الإخوان قد صعد للسلطة قبل أقل من أسبوع، وسط تخوف وتحفز قطاعات واسعة من الدولة والمجتمع، فباتت خطورة منحنى ما بعد 2011 أكثر وضوحا.. فى ظل هذه الظروف، جاء الإعلان من مركز البحوث النووى الأوروبى (سيرن) عن اكتشاف ما كان يُطلق عليه العلماء «الجسيم الإله»، وكأنه آتٍ من كون آخر.

هذا الجسيم، المسمى رسميا «هيجز»، له أهمية مركزية فى تصورنا العلمى للمادة وتفاعلاتها على أدق مستوى.. نظرا لذلك، ولأن التجربة التى كشفت عنه تكلفت ثمانية آلاف مليون يورو، لم يكن من الغريب أن يثير الإعلان ضجة كبيرة فى الغرب، حيث تولى الإعلام عملية شرح أهمية النبأ للعامة قبل أن توزع الأكاديمية السويدية جوائز «نوبل» على مَن تنبأ بذلك الجسيم (ومنهم الدكتور هيجز نفسه). أما فى مصر، فلم يكن للخبر أى صدى تقريبا، حتى بين الأوساط العلمية.

كان تغيير تلك الأوضاع ما عزم زويل عليه من خلال مشروعه، ولاسيما من خلال المدينة العلمية التى أخذت اسمه.

كنت أعمل آنذاك أستاذا مساعدا بمركز الفيزياء الأساسية فى مدينته الوليدة، وتصادف الإعلان عن «هيجز» مع ميعاد الاجتماع السنوى لمجلس الأمناء، والذى ألقيت خلاله محاضرة تلخص نشاطات المركز (نيابة عن مديره، د. شعبان خليل، الذى كان مسافرا بالخارج).. ونظرا لوجود باحثين بالمركز من المشاركين فى تجارب «سيرن»، قمت بعرض نتائج اكتشاف «هيجز». كان اهتمام زويل البالغ بتفاصيل النتائج، رغم بُعد الموضوع عن تخصصه، لافتا فعلا للنظر.

قام زويل من على مقعده ووقف أمام الشاشة ليشرح لبقية مجلس الأمناء دلالات الرسم البيانى المعروض، وطبيعة التفسير الإحصائى للنتائج المعملية، موضحا مدى صعوبة عملية الكشف التجريبية. هكذا انتقل فجأة رئيس مجلس الأمناء لعالمه الطبيعى، فظهرت على وجهه سعادة وفى عينيه بريق نابع عن متعة متأصلة بعالم المعرفة العلمية، معبرة عن فضول فكرى أصيل يخسره معظم البشر فى الصبا. فى هذه اللحظة ابتعد الوجوم العصبى الشرس، الذى عادة ما كان يسود وجهه عند الكلام عن الإدارة ومشاكلها، والصراع المتفاقم على أراضى المدينة.. طموحات زويل أخرجته من عالم متعته، ولم يعرف التعامل جيدا خارجه.

هكذا تيقنت أن هذا الفضول الطفولى الفائق يدفع زويل نحو النجاح على الأقل بنفس القدر الذى يدفعه حبه للنجاح نفسه.. وأنه كان فعلا يرمى لنقل تلك الروح لبلده الأم.. أما مَن اتهمه بأنه عمل من أجل مجده الشخصى فقط، بصرف النظر عن المصلحة الوطنية، فلم يتفهم أن ذهن زويل لم يفصل بين الرغبة فى المجد الشخصى والمساهمة فى نهضة الوطن، لأنه اعتقد أن المجد الشخصى الأصيل يجب أن يكون مبنيا على أساس إنجازات حقيقية، فالأشياء المزيفة فانية ولا تخلد اسم مَن شيدها. لذلك أعتقد أنه كان مقتنعا بأن رغبته فى بناء شىء حقيقى يخلد اسمه على أرض مصر تعنى بالضرورة المشاركة فى نهضة الوطن.

ربما هذا النمط من التفكير كان غريبا على الكثيرين فى مصر، لأن قيمة الإنجاز الحقيقى تدنت لدرجة أنها لا تجد مَن يقدرها، ولذلك ليس هناك مَن يسعى للمجد الشخصى على هذا الأساس. لكن فى نفس الوقت، فلم تساعد شخصية زويل العنيدة، التى بدت متعالية أحيانا، على جلب التعاطف.

المجتمع المصرى مجتمع محافظ تقليدى ينبذ مَن يستعرض «الأنا»، أو يُبرز «الايجو» المتضخم النابع عن إحساس بالتميز. لذلك كان من الصعب على الكثيرين استيعاب شخصية زويل، رغم أنها منتشرة فى أرقى جامعات العالم، خاصة فى الولايات المتحدة، بل إن تجربتى الشخصية تشير إلى أن نسبة هذه «الشخصيات الصعبة» تزداد مع درجة النبوغ العلمى. هناك تفهم فى المجتمع العلمى لمثل هذه الشخصيات، فـ«نيوتن» نفسه كان كذلك.

لكن فى مجتمع لديه صورة مثالية عن العالِم المتواضع «الجليل»، شكلت شخصية زويل استفزازا فجا، خاصة أن وجوده وكلامه كشف عن عورات فى البنية الفكرية والمجتمعية، كان يفضل البعض أن تظل مستترة.. فى هذا الإطار، تصادمت طموحات زويل مع مكبلات حقائق الواقع. وفى تعامله العنيد مع الواقع المعيق اتضح أن طبيعة شخصيته تجسد خطأ مأساويا قاتلا، على نمط ما سماه اليونانيون القدامى «هوبريس»، الثقة الزائدة التى تناهز الغطرسة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل