المحتوى الرئيسى

لبنان جنة الزائرين | المصري اليوم

08/04 22:39

استقللت الطائرة إلى بلد أحبه كثيرا، وأنا التى عبرت بى من قبل مئات الطائرات الأجواء والمحيطات إلى بلاد جميلة وبعيدة وغريبة.. فقد عشقت الأسفار والترحال، وصار لى فى كل مدينة أو جزيرة أو بلد ذكريات وقصص لا تنفد.

وأنا فى طريقى إلى بلد المتعة والجمال، كان فى جعبتى الكثير من ذكريات الزمن الجميل.

وطرت هذه المرة إلى بلد عشقه الكثيرون من أرقى الفئات وعظماء الدنيا، هو عندى أحد منابت الإبداع والحضارة والفكر الرفيع والفن الرائع والجمال..

لقد أحببت لبنان قبلًا، والآن صرت أحبه أكثر..

أحببته قبلاً من خلال أدبائه وشعرائه ميخائيل نعمية، وجبران خليل جبران، ثم الشاعر بشارة الخورى أو (الأخطل الصغير) الذى غنى له عبدالوهاب (الهوى والشباب والأمل المنشود، توحى فتبعث الشعر حياً). والبيت القائل: (لم يكن لى غد فأفرغت الكأس ثم حطمتها على شفتىّ)، وأغنية (يا ورد مين يشتريك)، و(الصبا والجمال).

أما ميخائيل نعيمة فقد عشت بين سطور فلسفته أعواما طويلة أمتص حكمته، وأقتدى بما يمليه عقله العارف من أفكار ومشاعر وتعاليم، وهو الذى «انعتق من المادية انعتاقا، بل لعله لم يؤمن بما يسمى مادة، ولعل فى هذا ما يفسر فلسفته التى تتلخص فى مفهوم أو فلسفة (وحدة الوجود) وتعنى الفناء المطلق فى الله، حيث الفناء أقصى درجات المحبة».

وجبران خليل جبران الذى تناول علاقة الإنسان بالكون، فتحدث عن الله وأسرار الوجود والروح والجسد والزمن.. وغيرها من الموضوعات الصوفية الفلسفية، وقد آمن جبران بالتقمص الذى تقول به البوذية والهندوسية، حيث الموت ليس إلا انتقالاً من حياة إلى أخرى.

فقد تعلمت منهما (نعيمة وجبران) فلسفة الحياة فى باكورة الصبا.

وأشرد... متى كانت زيارتى الأولى إلى لبنان؟

كنت دون العشرين من عمرى، لم أزل طالبة جامعية تدرس الفلسفة فى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ولم أغادر مدينتى الإسكندرية أبدا، ولا حتى إلى أى مكان بمصر، وكانت الدعوة بمناسبة انعقاد أسبوع شباب جامعات البلدان العربية.

وأذكر الباخرة أسبريا، التى أقلتنى من ميناء الإسكندرية، حيث البحر الشاسع، والزَّبد يتطاير حول السفينة، وأنا أرقب الفضاء الذى يحمل المستقبل المجهول مضطربة فرحة، حتى اقتربنا من ميناء بيروت المحاط بالصخور التى تتكسر فوقها الأمواج، ولم يكن لبنان أكثر أناقة وجمالاً من مدينتى الإسكندرية فى ذلك الوقت، لكن ناسه كانوا أكثر لباقة وحيوية.

وكانت الزيارة التالية بعد سنوات طويلة من ذلك التاريخ، إذ كنت أسكن طوكيو، بحكم مركز زوجى كسفير للكويت، وجاءنا وفد صحفى من لبنان للقيام بمهمة ثقافية، ثم دعوة من الأستاذ سعيد فريحة رئيس دار الصياد، وكانت زيارتى الثانية التى رسمت خطا ثقافيا واضحا فى حياتى بعد ذلك..

هذا هو لبنان، لبنان طه حسين وفكرى أباظة وأحمد شوقى ومحمد عبدالوهاب، حيث كانت الطبقة العليا المثقفة أو الاجتماعية تصطاف فى جبالها، وعلى شواطيها، ناعمين بخيرات لبنان.

وسألنى المنوط به استضافتى: من تريدين أن تلقى من أهل الثقافة هنا؟ فأجبته على الفور: أريد لقاء الشاعر نزار قبانى، وكنت قد عرفت نزار من خلال قصائده، إذ كنا نتلهف على الجديد فى الأدب والنقد، فكانت قصائد نزار تجتذبنى لما فيها من تجاوز للصياغة التقليدية، إضافة إلى اتسامها بالبساطة والعفوية، وكان بين يدى (طفولة نهد)، و(قالت لى السمراء).

وجاء نزار لزيارتى فى فندق سان جورج، الذى يفترش الساحل اللبنانى، ودارت بيننا حوارات شعرية وآراء انتهت باقتراحه الانتقال إلى فندق شبرد فى مصيف بحمدون، حيث يجتمع أهل الفن والثقافة، وهناك تحققت لى أمنية طالما راودتنى على مدى سنوات حياتى، وهى لقاء موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، فقد كانت المرة الأولى التى ألقاه فيها وجهاً لوجه، لا صورة ولا سينما، بل وهو فى أناقته وكبريائه..

كان يجول فى أروقة الفندق بلا توقف، وكانت زوجته السيدة نهلة القدسى تجلس فى الصالون، فبادرتها بالسؤال: لماذا يسير بلا توقف؟ وصخبت بالضحك قائلة: إنه يهضم الكوستين اللتين أكلهما، ويأتى عبدالوهاب ليجلس بيننا ممسكا عوده؛ ليدندن (ما أقدرش أنساك)، ونتعارف وتكون بداية صداقة كبيرة لم تنته إلا بموته..

أذكر عالية والكرز يفترش منعطفاتها.. ثم شتورة ذلك المصيف الشاسع الهادئ بأشجاره ونسائمه ورائحة زهور البرتقال ثم ألبان الفنانة بديعة مصابنى، التى اتخذت به محلا لبيع الجبن ومشتقات اللبن، لما أدركتها الشيخوخة.

وكيف لا أذكر صوفر، ثم مصيف زحلة بهوائه العليل ومأكولاته الشهية وشلالاته تهدر بيننا؛ ليعلو صوت عبدالوهاب بأغنية (يا جارة الوادى)، التى نظمها شوقى فى هذا المكان عام 1929 بفندق قادرى بجارة الوادى، وكان معه محمد عبدالوهاب وفكرى أباظة وموسى نمور وجبران توينى، وكانت بعنوان (زحلة) وتقول:

يا جارة الوادى طربت وعادنى

ما يُشبه الأحلام من ذكراك

إن تكرمى يا زحل شعرى إننى أنكرت كل قصيدة إلاك

أنت الخيال بديعه وغريبه الله صاغك والزمان رواك

كما وجدت تمثالين لشوقى وعبدالوهاب فى مدخل المكان، فلبنان يقدر الفن والعبقرية.

صوت فيروز يلاحقنى أينما توجهت (إسهار بعد إسهار تا يحرز المشوار، كتار هو زوار شو يوبيفلو وعنا الحلا كلو، وعنا القمر بالدار وورد وحكى وأشعار بس إسهار).

ومرة أخرى أزور لبنان، وكان ذلك منذ عشر سنوات مضت، وكانت صدمة مروعة، إذ فوجئت بالخراب واليباب، وتغير المجتمع، والناس فى ذهول، وسألت أين المسرح والطرب والمقاهى الغاصة بالجمال، أين الأناقة والفرح والترحاب والذوق الرفيع؟ وصدمت بل صعقت من أجل لبنان الجريح، ولم يعد فى الجبل إلا بضع مقاه متناثرة ونساء يرتدين النقاب ومطاعم بها مأكولات فاسدة، وأسأل أين ذهب سان جورج فندقى الذى أحب، والإجابة احترق، وأين ذهب فندق بريستول؟ الإجابة: هدم، وأين شبرد بحمدون؟ أزيل.

بدت بيروت حزينة بين يدى لأول مرة فى العمر، وذهبت مع النيَّة بألا أعود أبدًا.

إنها الحرب اللعينة التى أتت على الأخضر واليابس.

هذه المرة دعانى بعض الأصدقاء، فقلت: فلأذهب ليومين أو ثلاثة على الأكثر، ولم أتوقع أى فرح أو متعة... وفوجئت منذ وصولى المطار أن بيروت عادت إلى بريقها وأناقتها، فلم أصدق، وانتظرت حتى وصلت إلى الفندق.. ما هذا الرواء؟ ما هذه العظمة؟ أأنا فى باريس؟، بل لا يقل أناقة عن (جورج سانك). والتفت حولى فإذا بفتيات وسيدات يرتدين أفخر ما تقدمه دور الأزياء العالمية، ويتكلمن الفرنسية والإنجليزية، فوجدتنى أغوص فى أحد المقاعد الوثيرة مستمتعة بالأجواء العطرة والفنون العالمية، وجاءنى الجرسون الأنيق بانحناءة يقدم لى (القهوة البيضاء)، وهى مياه ساخنة مع ماء الزهر- زهر البرتقال، وأغمضت عينى، لا شك أننى أحلم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل