المحتوى الرئيسى

«اشتباك».. عن السياسة التى قتلت إنسانيتنا

08/04 21:11

هذا فى رأيى أفضل أفلام موسم 2016 السينمائى حتى الآن، بل لعله من أفضل وأهم الأفلام المصرية التى أُنتجت فى السنوات العشر الأخيرة. فيلم «اشتباك»، الذى كتبه الثنائى محمد دياب وخالد دياب، وأخرجه محمد دياب، لا يتجاهل السياسة، ولكنه ينظر إليها من زاوية إنسانية واسعة للغاية.

انحيازات الأخوين دياب السياسية معروفة، فقد اشتركا فى كتابة فيلم «الجزيرة 2»، الذى اعتبرتُه وقتَ عرضه أبلغ هجائية ضد تيار «التأسلم السياسى»، بل إننى رأيت فى الحكاية بأكملها مجازا ذكيا لما حدث من ثورة ضد حكم الإخوان فى 30 يونيو. وصل «الجزيرة 2» إلى درجة غير مسبوقة فى التعبير عن تحالف الأضداد ضد «الرحالة»، ولكن هذا الانحياز لم يمنع أن ينحاز الشقيقان إلى الإنسان أولا فى «اشتباك»، وهو أمر يُقال بقوة آسرة، وببلاغة مدهشة، وبمغامرة فنية، تحبس الأنفاس، وتستدعى التأمل.

الفيلم الذى عرض أخيرا فى الصالات المصرية، بعد أن حصل على تقدير عالمى، تمثل فى افتتاحه لقسم «نظرة ما» بمهرجان كان، وفى مقالات الإطراء فى الصحف العالمية، لا ينحاز أصلا إلى أى فصيلٍ سياسى، رغم أنه يجمع ممثلى كل التيارات فى سيارة ترحيلات مكتظة فى أحد الأيام التى تلت ثورة 30 يونيو، بل إنه أقرب إلى إدانة الجميع.

رؤية الفيلم ببساطة هى أننا لم نستطع أن نتقبل بعضنا، ولم نفهم بالأساس معنى وجود الآخر، ولذلك وصلنا إلى حالة من «الهيستريا الجماعية المختلطة»، عربة الترحيلات فى الفيلم ليست سوى صورة لما يمكن أن نفعله مع بعضنا البعض فى أى مكان، ولكن العربة تتيح تنفيذ مغامرة فنية، حيث تظل الكاميرا والشخصيات فى مساحة ثمانية أمتار. كما أن عربة الترحيلات ارتبطت بوقائع معروفة فيما تلى سقوط مرسى، ووضع الشخصيات فى حالة خطر يزيد الدراما قوة وتكثيفا.

المكان المغلق المعلق بين الموت والحياة يذكرنا بالطبع بفيلم «بين السما والأرض» من إخراج صلاح أبو سيف، ولكن فكرة وجود أشخاص من فئات متباينة يواجهون المجهول أوسع من ذلك، ولها أصداء كثيرة فى أعمال معروفة أخرى مثل مسرحية «سكة السلامة» لسعد الدين وهبة، أو فيلم «البداية» لصلاح أبو سيف، والعملان يقدمان أيضا مجازا سياسيا فى إطار موقفٍ محدد الزمان والمكان.

لا يوجد أى تناقض فى معالجة الثنائى دياب البديعة فى فيلم «اشتباك»؛ لأن مفتاح الفيلم ببساطة أن يسبقَ الموقفُ الإنسانى الموقفَ السياسى، هذا الأمر البدهى لم يعد كذلك اليوم، بسبب التحزبات واللجوء إلى العنف من كل الأطراف، ولكن «اشتباك» يطبق قاعدته على الجميع، ولذلك يدينُ عنف الشرطة العشوائى، بنفس الدرجة التى يدين بها عنف الإخوان وعشوائيتهم، ولذلك أيضا يتعاطف مع ضابط صرعته رصاصة، بنفس الدرجة التى يتعاطف فيها مع رجل عجوز مات فى عربة الترحيلات.

يقول لنا الفيلم عبر تفاصيل مواقفه البسيطة: «تصرفوا وفقا لإنسانيتكم أولا ثم اعتنقوا ما شئتم بعد ذلك.. عاملوا بعضكم بما يليق بهذه الإنسانية، ثم اختاروا ما تشاءون»، إننا تقريبا أمام أحد أكثر الأفلام تعبيرا عن «الفكرة الليبرالية» فى تاريخ السينما المصرية، الانحياز القاطع للإنسان بوصفه جديرا بالحرية وبالاحترام.

لعلى أذهب بعيدا فأقول إن «اشتباك» يكاد يدين السياسة العمياء التى تجعل البشر يتجاهلون إنسانيتهم، ويكاد يشكر الأزمة التى جعلت أبطال الفيلم يذكرون أنهم يحبون ويكرهون، يبكون معا من الخوف، ويبتهجون بالنجاة المؤقتة، يتحدثون عن الأهلى والزمالك فى وقت الراحة، ويتعاونون لإنقاذ من أصابه الحصر لعدم وجود حمام للتبول.. هذه النماذج الإنسانية التى اختيرت بعناية لتمثل كل الفئات تقريبا (ممرضة، سائس سيارات، إخوان، شاب مسيحى، مشغل دى جى فى الأفراح، مراسل صحفى أمريكى من أصول مصرية، أحد مشجعى الألتراس) هى بالأساس ضحية الصراع السياسى.

المشكلة الأعمق، والتى قدمها الفيلم بذكاء، ليست فى الانحباس فى داخل عربة ترحيلات مجهولة الهدف والمصير، ولكن المشكلة الأخطر داخل الشخصيات، فى رفضها للآخر، فى أنانيتها عند التمكين، خروج الشخصيات من العربة لن يحقق السلامة؛ لأن الكل يتعارك خارج العربة، بل إنه يوجد داخل المنزل الواحد من يقوم حرفيا ما رأيناه من اشتباك داخل عربة الترحيلات، أشقاء يتضاربون بل ويقاطعون بعضهم البعض بسبب السياسة الحمقاء.

انتصار الفيلم الوحيد لآدمية الإنسان، ولذلك يرفض أن يلغى الإنسان إنسانيته باسم تنفيذ الأوامر، سواء عند الشرطة أو عند الإخوان، ويرفض القتل المجانى برصاصة إخوانية من فوق الكوبرى، أو بطوبة طائشة من متظاهرين يريدون الانتقام، مثلما يرفض أيضا أن يموت إنسان لأنه لا يستطيع أن يقضى حاجته، أو لأنه لا يستطيع أن يلتقط أنفاسه فى عربة ترحيلات.

السياسة فى الفيلم هى سبب المأساة، والعودة إلى إنسانيتنا هى المخرج، السخرية مريرة من خيبتنا؛ لأننا فى فشلنا لا نحترم بعضنا، إنه بالضبط فيلم عن خيبتنا بصرف النظر عن مواقفنا السياسية، حتى لو كان لدينا أعظم دستور، أو أقوى برلمان، فإننا فى مهب الريح، بدون أن نؤمن بقاعدة الاختلاف، واحترام الآخر، والحفاظ على إنسانيتنا.

إذا لم يتحقق ذلك، فعند أول فرصة سنعود إلى القتل والاشتباك، وهذا ما حدث فى النهاية عندما استعاد الإخوانى قيادة عربة الترحيلات، لقد عاد لينظر إلى جماعته ومصلحتها فقط، فانقلبت العربة بمن فيها، وسط أضواء الليزر، التى كانت يوما إشارة لانتصارنا ووحدتنا فى الميدان، فأصبحت فى الفيلم عنوانا على المأساة.

يقال كل ذلك ببراعة فنية أخاذة، نكاد نشفق على معتقلى عربة الترحيلات من الخروج منها؛ لأن فى الخارج معركة أعنف بين الإخوان والشرطة، وبين أنصار مرسى ومعارضيه، هذا هو المعنى الخطير الذى يتجاوز الواقع ليتأمل مجتمعا يمارس تقريبا الحرب الأهلية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل