المحتوى الرئيسى

د.محمد المخزنجي يكتب عن يوسف إدريس: لم يتوقف عند القصة.. وإبداعه مستند إلى «التنوع الحيوى»

08/04 13:32

- من النسخة الورقية لجريدة اليوم الجديد الاسبوعية 

   إدريس اتجه إلى كتابة المقال بدلًا من القصة شعورًا بالمسئولية تجاه الوطن

   أوجز تعريف للأدب هو أنه «سِجل المشاعر».. ومقالات إدريس كانت كذلك

   لو أعدنا نشر كثير من مقالاته اليوم لاكتشفنا أنها «لغة الآى آى» التى لا يزال يصرخ بها الواقع

أعتقد أن إثارة موضوع توجه يوسف إدريس لكتابة المقال وهجرانه، أو ما يبدو هجرانه، لكتابة القصة -ولا أحب وصفها بالقصيرة أو الطويلة فهذا مقياس سوقى تمامًا فى حقل رحيب الرهافة كالأدب- هذه الإثارة للموضوع بزعم نضوب الموهبة عند يوسف إدريس استنادًا إلى قلة أو حتى عدم كتابته للقصص فى الفترة الأخيرة من حياته، لا تعكس فقط نوعًا من العدوانية والحسد الكامنين تجاه موهبة عظيمة كيوسف إدريس، إنما تعكس حتمًا ضيق أفق فى فهم الإبداع عمومًا، والإبداع الأدبى خصوصًا، كما تعكس جهلًا نقديًّا بضرورة وجود التنوع فى مجال الكتابة الأدبية كشرط حيوى لاستدامة الأنواع كافة، حتى هذه التى يريد منطق التسويق والترويج الاستهلاكى تسييدها على بقية الأنواع، وهذا قانون مشتق من قوانين سلامة البيئة على أسس إحيائية، ويدعى قانون التنوُّع الحيوى BIODIVERSITY، ومن أمثلته الشهيرة أن القضاء على خطر النمور التى كانت تهاجم قرية إفريقية -تمددت فى جزء من الغابة- وتفترس بعض سكانها، أدى إلى انتشار القرود التى كانت تتغذى بها النمور، انتشارًا جعل القردة وباء يزاحم سكان هذه القرية فى حقولهم ودورهم وطعامهم وفراش نومهم وحتى فى بيوت راحتهم! ومن ثم لم يجد سكان هذه القرية أمامهم من حل للقضاء على وباء القرود، التى مهما قضوا على بعضها يظل معظمها، إلا أن يهجروا القرية ويهيموا بحثًا عن موئل جديد يستريحون فيه من إزعاج شامل للقرود كان أهون منه الافتراس الجزئى للنمور.

قانون التنوع الحيوى هذا أراه قابلًا للتطبيق فى مجال الحديث عن إقصاء فن أدبى لصالح فن أدبى آخر، وهو هنا الحديث عن انتحاء يوسف إدريس لكتابة المقالات لا القصص، واتخاذ ذلك ذريعة لاتهامه بنضوب الموهبة. وهذا إضافة لكونه مغالطة لقوانين عامة فى الحياة المادية والحياة المعنوية كالأدب، فهو مغالطة قصيرة النظر وفقيرة المعرفة لوفرة الأشكال الأدبية المقدرة خارج التصنيف الكسول الذى يعممه النقد المتكلس لدينا، وتسوِّق له وتروج آليات النشر والدعاية سطحية المعرفة بقيمة كل نوع إبداعى، والمقالات التى واصل يوسف إدريس كتابتها فى الفترة الأخيرة من حياته، إضافة إلى أنها كانت استجابة نبيلة من كاتب عظيم يحس بخلجات واقعه وصرخات طلب الإسعاف والغوث فيه، كانت منتمية لنوع إبداعى من الكتابة هو «المقال القصصى»، فالسرد بتقنياته وروحه موجود بوضوح فى مقالات يوسف إدريس التى كانت نفثات صدر شديد الحساسية يحترق بوهج نيران رديئة ومهلكة تأكل وطنه وناسه وتهدد الحاضر وتطيح بالمستقبل. وقد عبر يوسف إدريس عن عظمة المروءة فى ذلك الانتحاء عندما قال لسائليه «أين القصص»، ما معناه: عندما يرى الكاتب بيتا يحترق هل يجلس على كرسى أمام ذلك البيت ليسجل ما يصنع منه قصة يصفقون لها فيما بعد، أم يقتحم النيران مع المنقذين ليخرج الناس من مصير الاحتراق!

كانت كتابة المقال عوضا عن القصة تعبيرًا عن شعور عظيم بالمسئولية لدى كاتب هائل، ثم إنه كان يكتب المقال بوهج الروح المبدعة ذاتها، ولهذا كان يوم الإثنين يومًا ينتظره مئات آلاف الناس وربما ملايينهم ليقرؤوا ماذا سيقول يوسف إدريس فى مقاله، وقد كان يقول ما يستخرج جوهر القضايا، وسويداء قلوبها، وجمر أحشائها، وكان يصوغ هذا الجوهر فى سياق أدبى، هذا إذا اعتمدنا أن أوجز وأفضل تعريف للأدب هو أنه «سجل المشاعر». وقد كانت مقالات يوسف إدريس سجلا للمشاعر المحتدمة ونبضا لحكمة القلب البصير، من مستوى رفيع، لا يقل تأثيرًا عن قصصه، بدليل أننا لو أعدنا نشر كثير من مقالاته اليوم لاكتشفنا لدهشتنا البالغة أنها «لغة الآى آى» التى يصرخ بها لا يزال هذا الواقع، واقعنا هنا، والآن.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل