المحتوى الرئيسى

لحـظـة غـروب! | المصري اليوم

08/04 02:06

الناقد والمبدع الجميل د. زكى سالم، الصديق الشخصى لنجيب محفوظ، أهدى قراء هذا العمود هذه القصة الرمزية الفلسفية الجميلة:

فى الصباح الباكر- مع الشـروق- أحضرنى أبى وأمى إلى هذا الشـاطئ الـمدهـش.

أقام أبى لنا شـمسية جـميلة أمام البحر مباشـرة. وأحضرت أمى معها أشكالا وألوانا متعددة من طعامها اللذيـذ.

انـطلقت ألعـب- أولا- عـلى الـشاطئ، وبـعد ذلك انـدفعت نحـو الـماء. وبـين الرمـل والـماء، قابلـت الكـثـير من الأصدقاء والأحـبة، وواجهت -أيضا- أعداء، وتـشاجرت معهم.

كان أبى ينصحنى- دائما- أن أبتعد عن الشـجار، وأن أعلو فوق الصراعات بالفـهم والحـكمة والتسـامح.

والحـقيقة أننى لـم أتعلم كثـيراً من نصائـح أبى، لكنى تعلمت الكثـير من البحـر. فلكل شىء فى البحر قانون: للطفو قانون، وللمد والجزر قانون، وللعلاقات بين الأسـماك قانون، حتى حركة الأمواج لـها قانون! يا للعجب! يبدو أن هذا البحـر على صلة وثيقـة بالسـماء! أتكون حركته هذه تتم بناء على أوامر علىّ؟!

تقلبـت فى بحـور الحـيرة طويـلا، وغرقت فيها، حتى ظننت أننى لن أطفو مـرة أخـرى!

إلى أن قابلتها، فأخذتنى من كل شىء! ووجدتنى منجـذبا إليها وحدها! فلم أعد أهتم بالآخرين، ولم أعد أرغب فى شىء سوى الوجود معها، والانطلاق معها بـعيدا عن الأعيـن والهمسـات.

لا أدرى لـماذا شـعرت بعدم ارتيـاح أمى من حبيبتى! ولا أنسى كذلك نظرات أبى الـمحذرة، ونصائحـه الـمتكررة.

لكنى أهـملت كل شىء يـمكن أن يبعدنى عنها، وانطلقت معها إلى الماء لنسـبح وحـدنا بـعيدا عن الجـميع، نتذوق حلاوة الوجود معا بين زرقة البحـر، وزرقة السـماء.

للجـذبة الأولى مـذاق شـديد العـمق والروعـة، لدرجـة أن الوعى يحـتفظ بـها للأبـد.

أمشـى مـعها عـلى الشـاطئ، وأتأمـل جـمال الوجـود مـن حولى!

للبيـوت الـمبنية على الرمـال، جـمال خاص، ترى كـم من الزمن والجـهد أخـذته هذه البيوت؟!

ملأتنى الرغبـة العارمـة فى بـناء بيـت أجـمل من كل هذه البيـوت البديعـة. فتعلمت كيف يمكننى أن أبنى بيتا، يعبر عن مزاجى الخاص، ورؤيتى الـمتفردة.

ثـم رأيـت من يـمشـون بلا مـبالاة، ويدوسون بأقدامهم فوق أشـياء جـميلة جـداً، فيحـطمون فى لحـظات ما بناه آخرون ببذل الجـهد والوقـت والتفكـير. فأقمـت سـوراً حـول عملى، حـتى لا يحـطمه المخـربون. وبالجـهد والـمثابرة بدأت تظهر ملامـح بيت رائـع لا مثـيل لـه!

وقبل أن أنتهى من عملى، دعانى أبى إلى الرحـيل! فرفضت بشـدة، وقاومت بعنف لأكـمل عملى الكبـير.

ذهـب أبى وتبعـته أمى. وبقيـت وحـدى، وقد شـغلنى عملى عن كل شىء آخـر.

أحـاول بـكل حـب وجـد وتـفـان أن أنـهى هـذا الصرح العـظيـم.

وفجـأة مـلأنى شـعور عميـق بالتسـاؤل: مـاذا يعـنى كل هذا الجـهد؟! ومـاذا سـيحدث بعد أن أذهـب؟!

بـيتى فـوق رمـال لا تصمـد أبـداً للزمـن! فهل سيسـتفيد أحـد مـما قدمتـه يـداى؟!

أيـمكن أن ينجـو هذا الجـمال من أيدى وأقدام المخربين والمهملين والحـمقى والجـهلاء؟!

ما أبذل فيـه- الآن- كل جـهدى ووقـتى وتفكيرى مصيره الزوال الأكيد، إلا أننى ما زلت مصراً على أن أكمل ما بدأتـه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل