المحتوى الرئيسى

كريم جمال يكتب: الأطلال.. تغريدة أم كلثوم الأخيرة! | ساسة بوست

08/02 18:27

منذ 2 دقيقتين، 2 أغسطس,2016

في ظل ااإتجاهات الموسيقية الجديدة التي شقت طريقها إلي عالم أم كلثوم منذ مطلع الستينات ظهر خلاف بين رياض السنباطي وبين أم كلثوم منذ أوائل عام 1960 حتي ربيع 1961 على أبعد تقدير، وقد عزى السنباطي ذلك الخلاف إلي تدقيقه في الكلمات المغناة التي تختارها أم كلثوم وأكد أنه رفض أكثر من مرة كلمات لحنها غيره، وأغلب الظن أن السنباطي لم يكن يرضى عن نكهة الحداثة التي ظهرت في أسلوب الغنائي الكلثومي والتي أعتمدها كمنهجية تلحين بليغ حمدي ومن بعده محمد عبد الوهاب، فمن يعرف رياضًا يدرك أن الإيقاعات المبهجة التي ظهرت في أغاني أم كلثوم في الستينات لا تتوافق مع روحه الشرقية وميله إلي البناء الموسيقي القائم علي التأسيس النغمي وليس المعتمد علي المغامرة أو الفطرة الغير ناضجة، ولذلك كانت الحصيلة «الكلثوسنباطية» خلال الستينات أقل بكثر مما أنتجه الإثنين معًا في الخمسينات، وإن برز من تلك الحصيلة عدد من الألحان الكبري كان أهمها «حيرت قلبي معاك» و «أراك عصي الدمع» إلي أن أعطت أم كلثوم إشارة البدء للسنباطي في تلحين قصيدة «الأطلال» تلك القصيدة التي ظلت حبسية الأدراج منذ مطلع الخمسينات بعدما فشل شاعرها «إبراهيم ناجي» في إقناع أم كلثوم بغنائها، وتعد الأطلال مثال لافتا للنظر علي تدخل أم كلثوم في النص الشعري، وكعهدها أطلقت ليدها العنان فراحت تنتقي مقاطع من القصيدة واستبدلت بعض الكلمات ثم أضافت للقصيدة المغناة عدة أبيات من قصيدة أخرى لناجي أيضاً اسمها «الوداع»[1] لتصبح تلك الأبيات المنقولة من قصيدة الوداع هي عصب القصيدة المغناة وأهم أبيات فيها، ولتتكون الصورة النهائية للقصيدة من 32 بيتاً فقط من أصل 134 بيتا، ورغم ذلك التوليف الشعري إلى أن جاءت وكأنها ملحمة شعرية متماسكة تجسد قصة حب عاثر وربما كانت تلك إحدى خصائص أشعار ناجي، ومن ناحية أخرى أدرك رياض السنباطي أنه أمام اختبار صعب فمنذ عام 1960حتي 1966 سيطر عبد الوهاب وبليغ علي الجماهير الكلثومية من خلال إيقاعات راقصة وطقايق خفيفة بعيدة كل البعد عن موسيقي السنباطي ذات الأبعاد الروحية، لذا اهتم السنباطي هذه المرة بتكوين قاعدة موسيقية كبرى تسطيع حمل ذلك البناء القصائدي الضخم الذي وضعه ناجي، فكان رأي السنباطي دائماً أن «الموسيقى الأوروبية عالمية البناء، لأنها بناء فني ذهني»!

تكوين الأطلال ومعلب لراحة الأرواح

عمد السنباطي إلي مقام «راحة الأرواح» وهو صورة مطابقة لمقام الهزام لكنه يرتكز علي درجة العراق بدلاً من السيكا، فأسس مقدمة موسيقية ذات مقاطع متباينة المقامات لا يقتصر دورها علي التسليم لمقام القصيدة فقط بل تساعد على تأسيس أستطردات بعيدة،كما أنه صاغها علي أسلوب «الإدليب» وهو واحد من أهم مميزات الموسيقى العربية، حيث يتم العزف أو الغناء بدون مقياس زمني أو دليل وقتي واضح، فجاءت المقدمة كشبكة موسيقية معقدة لا يمكن تفتيت أجزائها وشطر جملها الموسيقية، ويبدأ الغناء وتستمر أم كلثوم في التوغل داخل مقام راحة الأرواح ثم تنحرف في رفق في أتجاه الصبا عند مقطع «يا حبيبًا زرت يومًا أيكه» ثم تنتقل من الصبا فتجاور «النوا أثر» ثم إلي «النهاوند» وهنا تتغير الطبقة وتظهر ذروة الجزء الأول من القصيدة فتغني أم كلثوم «أعطني حريتي أطلق يدى» بطريقة عجيبة حيث تظهر القدرات الإعجازية في صوت أم كلثوم وتضيف الزخرفة الصوتية في لفظ «آه من قيدك» للنص الموسيقي قدرة علي تصوير معني القصيدة، ثم يعرج اللحن علي عدة مقامات فيلامس «السوزناك» ويستنطق «الراست» ويصور درجات مقام «الكرد» في مقطع «أين مني مجلس أنت به» وهنا تظهر عبقرية رياض السنباطي في التمهيد لعاصفة موسيقية كبرى حيث تتجسد الذروة الثانية في تأدية أم كلثوم للقصيدة في مقطع «هل رأي الحب سكاري مثلنا» فيعود اللحن إلي مقام راحة الأرواح و هو أساس القصيدة وتفتح أم كلثوم أبواب صوتها وتبرز قوة عضلاته وقدراته الخيالية فتغني ثلاث مقامات دفعة واحدة وهم: الحجاز والبياتي وراحة الأرواح، ثم يحلو لها الأعادة فتغير طبيعة بعض جمل اللحن وتثير أذن المستمع بأستطردات لحنية ذات نبرات غير متوقعة تعطي أحياء بحركة غير منتظمة كالتي يوصف بها من كان تحت أثر الخمر، ويسيطر الهدوء علي اللحن مرة أخرى وينفرد «أحمد الحفناوي» بتقسمة كمان ترددها الفرقة من بعده لتدخل أم كلثوم بصوت عال يشبه الإنذار «وانتبهنا بعدما زال الرحيق» وهنا قصد رياض السنباطي إلي أستخدام الوتريات فقدم من خلالها لازمات موسيقية مرتعشة غرضها تصعيد حالة الشجن المسيطرة علي المقطع ككل، وتختم أم كلثوم الغناء مرتكزة علي راحة الأرواح مرة أخرى، ليدخل لحن راقص في نفس المقام و تستلم أم كلثوم الغناء معلنة نهاية القصيدة «يا حبيبي كل شيء بقضاء» فيتأرجح اللحن بين راحة الأرواح والراست حتي يعود اللحن إلي راحة الأرواح  لتنتهي القصيدة بقفلة «فإن الحظ شاء» والمستمع الجيد لغناء أم كلثوم يدرك أنها كانت دائماً تفضل القفلة الغنائية ذات الدرجات المنخفضة. فهي تحلق طوال الأغنية وترهق أذن المستمع معها صعوداً و هبوط حتي إذا شعرت بدنو القفلة عمدت إلي التخفيض من درجات صوتها حتي تترك المستمع في حالة هدوء وطرب، وللقفلة أهمية كبرى في خط سير أي غناء طربي لأن الأصوات التي تؤديها تحتاج إلى خبرة وتجربة وممارسة طويلة، وإذا عجز الصوت عن أدائها ضاع مجهوده طوال الأغنية وترك الناس في حالة فتور طربي وإنعدام للسلطنة، فالقفلة الغنائية هي المشهد الأخير للأغنية الذي لابد أن يحكم إخراجه بدقة شديدة، وهذا ما فعله رياض في صياغة قفلة الأطلال لكن تلك القفلة الرهيبة لم ترضي أم كلثوم لأنها وجدت نفسها ستختم الغناء علي قمة المقام وليس قراره، ودام الخلاف بينهما علي تلك النهاية ما يقرب من ثلاث سنوات حتي أقتنعت أم كلثوم بعدها برأي السنباطي، فكانت خاتمة الأطلال من أقوي قفلات تاريخ الغناء العربي كله إن لم تكن الأقوي بدون منازع!

علي مدار ثلاث سنوات شدت أم كلثوم بقصيدة الأطلال بما يقرب من 21 مرة كان أولها ليلة  7 أبريل 1966 من مسرح سينما قصر النيل بالقاهرة، وأخرها من أمام أبو الهول بالهرم في ليلة  19 يونيو 1969، وخلال ثلاث سنوات رسخت أم كلثوم مكانة الأطلال في تراثها الغنائي بل جعلتها أحدى أركان المزاج الكلثومي مع نظائرها (سهران لوحدي – رباعيات الخيام – ياظالمني) وبالنظر في جدول حفلاتها من بعد نكسة يونيو نجد أنها لم تترك رحلة من رحلات المجهود الحربي إلا وشدت فيها بالأطلال، فكانت في كل مرة تلجأ إلي الزخرفة و الحليات التاريخية التي تشمل أستهلال النغمات من فوق ومن اسفل طبقات الصوت، بل كانت تلجأ إلي تفاريد بعيدة عن اللحن الأصلي فتفتح المجال الأرتجالي لصوتها فتعيد مقاطع وتضيف ليها مادة لحنية جديدة وتستقر علي نغمات غريبة وغير متوقعة، فكان أول أداء تاريخي للأطلال في عيد ثورة يوليو الأخير 23 يوليو 1966، فبعد أن أسدل الستار مرتين عن أم كلثوم ألح الجمهور عليها واستزاد فأعادت أم كلثوم مقطع «ياحبيبي كل شئ بقضاء» لكن ذلك لم يكفيه وأصرت الجماهير علي الإعادة فأعادت الغناء مرة أخرى لكنها بدأت من مقطع «هل رأي الحب سكارى» أي أنها أستعادت ثلاث مقاطع دفعة واحدة، وهو ما فعلته ايضاً في حفلة طرابلس الغرب في مارس 1969 عندما أعادت 4 كوبليهات مرة واحدة فبعد أن كانت ستغني «وانتبهنا بعدما زال الرحيق» عادت لتغني «اعطيني حريتي أطلق يدى»!

(حفلة الأطلال في 23 يوليو 1966)

ولا تزال حفلات أم كلثوم للمجهود الحربي حالة خاصة في أرشيف حفلاتها، فقد فتحت تلك الحفلات آفاق مديدة من الطرب لصوتها، فأستثمرت كل إنتاجها خلال فترة السيتينات، وأعادت معظم ما غنته بصورة جديدة حتي أن بعض أغانيها صار ينسب للمكان الذي غنت فيه فيقال بعيد عنك (تونس) أو هو صحيح الهوى غلاب (المغرب)، إلا أن الأطلال ظلت هي العنصر المشترك بين جميع تلك الحفلات، فصار للأطلال صور مختلفة ووجوه عديدة بعد أدائها في البلاد العربية ، فبعد أن أدتها بصورتين علي مسرح الأولمبيا بباريس ليلتي 13 و 15 نوفمبر 1967، عادت لتقدمها مرتين أيضاً في مطلع مارس 1968 علي مسرح «محمد الخامس» بالمملكة المغربية، فجاءت أطلالها سلسلة متواصلة من التفاريد الفريدة وقد أستهلت أم كلثوم إرتجالها بموجات متقطعة من الأهات تحاكي اللازمة الموسيقية التي تسبق مقطع «أين مني عيني حبيباً» ثم مضت في طريقها حتي قدمت تفريد عجيب لمقطع «أين مني مجلسٌ أنت به» فكررت كلماته أكثر من أربع مرات في كل مرة بطريقة مختلفة و غير مألوفة قبل ذلك حتي في عالم ارتجالتها.

(تفاريد أين مني مجلسٌ أنت به)

وقبل أن تختم ارتجلت في مقطع «أيها الساهر تغفو» فكان ذلك الارتجال سابقة لم تحدث قبل ذلك، وهو الذي شجعها أن ترتجل في نفس المقطع في تسجيل حفلة الكويت مطلع مايو 1968 إلا أن التفريد في تلك الحفلة جاء بصورة غير متوقعة فقد أعادت المقطع وأجادت وجالت بين القرارت والجوابات في سلاسة وبساطة وكأنها لم تكن علي ابواب السبعين من عمرها!

في حفلتها الشهيرة في تونس في أواخر مايو 1968 وقبل أن تختم وصلتها الأولى غردت أم كلثوم بآهات متقطعة كررتها مرات قبل أن تستلم الغناء عند مقطع «يا حبيبي كل شيء بقضاء» وفي بعلبك بلبنان ارتجلت عند مقطع «هل رأى الحب سكارى» وهو لم يحدث بعد ذلك أبداً

(تفاريد هل رأى الحب سكارى)

ولكى نري أهمية ما صنعته الأطلال في مسيرة أم كلثوم يجب علينا أن تكون نظرتنا طويلة المدى لما قدمه السنباطي لها بعد عام 1966‘ فالواقع يقول أن السنباطي حاول مراراً أن يدور حول ما صنعه في الأطلال، وأن يعيد تلك التوليفة في قصيدة أخرى، ورغم أهمية ما قدمه في قصيدة  «أقبل الليل» عام 1969 و قصيدة «من أجل عنيك» عام 1972 إلا ان الأطلال ظلت هي التغريدة الكبرى في مرحلة أم كلثوم الأخيرة بل أنها صارت التغريدة الأكمل في تاريخ الغناء العربي إلي الآن!

كريم جمال / 31 يوليو 2016

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل