المحتوى الرئيسى

أحمد عشماوى: أبى شخصية عادية.. و"ماما" أحياناً "بتشخط" فيه

08/02 10:41

اسمى أحمد حسين قرنى «عشماوى».. نعم أبى هو «عشماوى» الذى ينفذ أحكام الإعدام.

هذا الرد، وتلك الكلمات يحملها الابن «أحمد» معه، مثلما يحمل بطاقته الشخصية، ففى كل مكان يوجد فيه، يجد من يسأله نفس السؤال، لكن فى نفس الوقت هناك من يواصل الأسئلة قائلاً: «يعنى إنت ابن عشماوى»؟ يرد: نعم.. ويكمل السائل -من باب الفضول- أسئلته قائلاً: كيف تتعامل معه فى البيت؟ بيضربك؟ هل تخاف منه؟ طيب بلاش كل ده.. إنت عايش معه إزاى فى البيت»؟ وعلى كل هذه الأسئلة وغيرها التى يتلقاها فى الشارع وفى المدرسة والعمل.. يرد عليها بابتسامة ونظرة.. ثم يذهب إلى حال سبيله قائلاً: «نعم أنا ابن عشماوى» حاجة غريبة!

فى هذه السلسلة «أبى.. الذى لا يعرفه أحد» قررت أن أذهب إلى ابن «عشماوى» هذا الرجل، الذى يمتهن مهنة يخافها الناس ويرتعد منها القتلة والمجرمين فى كل زمان ومكان، كيف يتعامل الابن مع أبيه؟ وكيف يتعامل الأب مع أولاده، وهو الذى يعيش نصف يومه مع غرفة الإعدام، حيث يقوم بتنفيذ الأحكام، فى الصباح يكون مع الحياة، حيث الزوجة والأولاد وطبق الفول، ورغيف العيش، والأولاد حوله يطلبون منه مصروف المدرسة وركعتين الصبح، وصوت الإذاعة يأتيه بأغنية «يا صباح الخير يا اللى معانا»، وفى المساء يكون فى مكان تنفيذ أحكام الإعدام.. بكره فيه شغل.. إعدام!

ألو.. أيوه أنا عمك حسين قرنى، أيوه يا سيدى عشماوى، اتفضل تنورنا، كانت هذه الإجابات هى دليلى إلى عقل وفكر مساعد أول حسين قرنى أشهر «عشماوى» قام بتنفيذ أحكام الإعدام فى مصر.

يسكن فى الزاوية الحمراء بوسط القاهرة، فى الموعد وجدته واقفاً أمام قسم الزاوية، لنذهب معه إلى بيته القريب من القسم، أثناء سيره فى الشارع يتحدث مع الجميع، فهو من المشاهير فى الحى كله، وصلنا إلى بيته فى شارع أبو بكر الصديق، على باب البيت رفض شاب أن يسلم عليه باليد، لأنه -بهزار- يضغط على كف اليد فيعصره عصراً، كما حدث معى عندما التقيت به فى الشارع، وما زالت ضغطة يده على يدى مصاحبة معى، وأشعر بها منذ أن استقبلنى فى الشارع، صعدنا السلم حيث يسكن فى الدور الثالث بعد دقائق تركنا، وجاء ابنه أحمد ابن الزوجة الأخيرة -تزوج من النساء ستاً- وله من الأبناء سبعة.

ملامح الابن تشبه ملامح أبيه من حيث الشكل والقوة، تركنا عم «عشماوى» وجلس فى البلكونة «يحضر» حجرين شيشة حيث ما زال -رغم تخطيه السبعين عاماً- لديه القدرة على التعامل مع التدخين من خلال «الشيشة» وجلست أنا مع الابن «أحمد» وبجوارنا غطاء رأس أسود.. وحبل غليظ.. هو «حبل المشنقة»! تلك هى «عدة الشغل»!

فى عام 1907 عرف المجتمع المصرى شخصية «عشماوى» فهو «القاتل الشرعى» الذى ينفذ أحكام الإعدام، وكان أول شخص يمتهن هذه المهنة اسمه «أحمد عشماوى»، وكان يعمل فى سجن ليمان طرة.. و«عشماوى» هو لقب عائلته الذى اشتهر به فيما بعد، ومنذ ذلك اليوم ارتبط اسم «عشماوى» بأى شخص يقوم بتنفيذ حكم القانون والشرع فى الوقت الذى يعده الوعى الشعبى لدى الجماهير بـ«نزير شؤم» داعين الله ألا يجعل بينه وبينهم نظرة أو كلمة.. أو حتى سلام.

سألت أحمد قائلاً: عندما كنت ترى «عدة شغل» أبيك التى هى «حبل».. و«غطاء رأس أسود».. وبينهما حياة إنسان يودع الحياة على يديه؟ قال: فى البداية وأنا طفل صغير لم أكن أعرف ما هى مهام عمل أبى، ولم يكن يجعلنا نقترب كثيراً من منطقة العمل تلك سواء بالقول أو بالفعل.

فنحن كنا ما زلنا أطفالاً، لكن عندما كبرت عرفت أنها مهنة مثل أى مهنة، وإذا كان الطبيب أو المهندس أو الفلاح أو حضرتك كصحفى لكم «عدة للشغل» فأبى أيضاً -لطبيعة عمله- له عدة شغل مختلفة، فكل إنسان لديه من المقومات والأدوات التى تمكنه من تأدية عمله على الوجه الكامل.. والطبيب ينقذ المجتمع من انتشار المرضى.. والسياسى ينقذ المجتمع من الانهيار.. ورجل الدين ينقذ المجتمع من الانحلال.. والشرطى ينقذ المجتمع من الجريمة.. وأبى كان ينقذ المجتمع من غياب العدالة بتنفيذ حكم الإعدام فى القتلة والمجرمين، هذه مهنة مثل أى مهنة وعمل مثل أى عمل، نعم هو له طبيعة خاصة بعض الشىء.. لكن فى الآخر.. «ده شغل»!

من بعيد جاء لنا صوت عم حسين وهو يدخن الشيشة فى البلكونة قائلاً: تعلمت فى مشوارى ألا تنظر لنوعية العمل؟ لكن انظر إلى إتقانك العمل، وحبك للمهنة التى تقوم بها، وهذا الإتقان، وهذا الحب هو الذى سيجعلك متميزاً وناجحاً ومتفوقاً فى عملك، أنا أحياناً أجلس مع نفسى وأسأل.. هل لو عاد بى الزمن مرة أخرى.. هل أعمل فى نفس المهنة؟ فأجد نفسى أرد، طبعاً، لأننى أثق فى أن الله سخر كل بنى آدم ليعمل فى مهنة معينة، لا يصلح أن يقوم بها غيره، اختيار المهنة من اختيار الله.. لكن الاجتهاد من اختيارك أنت.. وإن أردت أن تنجح فعليك أن تجتهد فى عملك.. قلت له: وهل قتل النفس يحتاج اجتهاداً؟ رد: لا.. هذا ليس قتل نفس، لكنه اقتصاص من أجل نفس، ثبت بالقانون والدليل الدامغ والاعتراف الكامل، وبرأى الشرع أن مكانها غرفة الإعدام لتحقيق العدالة من أجل نفس أخرى زهقت.. الحياة قصاص!

غرفة الإعدام طولها 10 أمتار وعرضها 5 أمتار فى الوسط منها طبلية خشبية، أسفل الطبلية بئر عميقة لمسافة 4 أمتار، فوق الطبلية «بلانكو» من الحديد، على ارتفاع مترين يربط فيه حبل.

والطبلية عبارة عن ضلفتين يقف عليهما المحكوم عليه بالإعدام، وتفتحان بواسطة ذراع حديدية.. فى الجانب الأيمن تسمى «السكينة» والآن تنفيذ حكم الإعدام، رئيس النيابة يأمر «عشماوى» بالتنفيذ، فتسحب الذراع لتفتح ضفتا الطبلية، ويسقط المحكوم عليه فى البئر، وهو مكتوف اليدين بواسطة حزامين جلديين، ومعلقاً من الرقبة فى حبل، يصنع خصيصاً لهذه المهمة، وبعد شد الحبل، يتأكد «عشماوى» من التنفيذ مع الطبيب الشرعى، الذى يحضر من اللجنة القانونية التى يرأسها رئيس نيابة عامة، ومدير مصلحة السجون، ومدير المباحث، ومأمور السجن ونائبه ومفتش المباحث، ورئيس المباحث وضابط الإعدام بالسجن وواعظ دينى مسلم أو مسيحى حسب ديانة المتهم.

عدت للابن أحمد قائلاً: هل كان يخاف منك الأطفال فى المدرسة أو فى الشارع؟ يضحك ويقول: أنا الذى كنت أخاف منهم! قلت كيف وهل ابن «عشماوى» يخاف؟ قال: لا.. أنا لا أخاف، لكن أبى علمنى ألا أحتك ولا اقترب من المشاكل. ودائماً ما كان زملاء لى فى المدرسة أو ونحن أطفال نلعب فى الشارع.. يحاولون استفزازى على طريقة «هو انت بقى ابن عشماوى»؟ فكنت أتجنبهم عملاً بنصيحة والدى.. مع أننى لو اطبقت على الشخص فيهم «هقعده مكانه».

غلط.. أكبر غلط.. من بعيد ناحية البلكونة، حيث يجلس عم حسين مصاحباً لدخان الشيشة، وهو يردد تلك الكلمات ويواصل كلامه قائلاً: أكبر غلط.. أن تذهب للمشاكل برجليك.. الحياة علمتنى.. قاطعته قائلاً: الحياة بس؟ قال: فهمت ماذا تقصد؟ من الحياة والموت تعلمت أن أفضل طريق فى الحياة هو أن تسير فى الطريق السليم.. قلت له: وما هو؟ قال: هو طريق واحد.. طريق العقل بكل شىء يجب أن تحكم فيه العقل، وأنا دائماً ما أقول لأبنائى الكبار والصغار الصبيان والبنات، أقول لهم «امش عدل.. يحتار عدوك فيك»، ثم يسحب نفساً من حجر الشيشة التى أمامه ويضحك ويقول: كنت وأنا شاب وحتى أيام عملى قبل خروجى للمعاش، كنت أجد من يحاول الاحتكاك بى وهو من الآخر «ميخدش فى ايدى زقة»! لكن كنت أبعد عنه، وأعتبره شراً، والحياة علمتنى أنك إذا ما وجدت الشر أمامك، فليس عليك إلا أن تبعد عنه.. و«تغنيلوا»! - رد أحمد الابن على كلام أبيه قائلاً: من هذه النظرية، وعلى نظامها علمنى أبى أن أتعامل مع الأطفال فى المدرسة، ولا أحتك بهم، ولا أنساق وراء أحد، إذا ما أراد استفزازى، لأننى أعلم أن أبى شخصية عامة، ومهنته لها مواصفات خاصة، قلت: عشماوى بقى!

يوم الأربعاء ديسمبر 1921 الساعة الآن السابعة صباحاً، المكان سجن الحضرة بالإسكندرية، المتهمون الذين سينفذ فيهم عشماوى حكم الإعدام هم «ريا وسكينة ومعهما عبدالعال» زعماء أخطر عصابة هزت الرأى العام فى مصر فى ذلك الزمان.

«محمد حداية» باشا محافظ الإسكندرية يسأل:

- عايزة حاجة يا ريا؟ آه.. أشوف بنتى بديعة، يرد عليه عبدالفتاح صالح «القائمقام» مأمور السجن: رأيتها حتى الآن ثلاث مرات، فتقول: أودعتك.. يا بديعة يا بتنى بيد الله.. وهذه آخر كلمات لها قبل الشنق.. أما سكينة فقالت: أنا صحيح ولية.. لكن جدعة.. والموت علينا حق ثم يشد عشماوى السكينة فتسقط من فوق الطبلية، بعدهما يدخل عبدالعال قبل التنفيذ ويقول: «شوف شغلك كويس يا عشماوى.. كله موت» لتكون كلمة «موت» هى آخر كلمة ينطق بها عبدالعال قبل تنفيذ الحكم عليه.

العراق وبالتحديد فى منطقة «الكاظمية» شمال بغداد، اليوم هو فجر يوم عيد الأضحى عام 2003 والمتهم هو الرئيس السابق صدام حسين، المكان عبارة عن غرفة داكنة غير مضاءة بشكل جيد، ستة من الملثمين يرتدون الملابس المدنية، أحد الأشخاص فيهم يتحدث إلى صدام حسين بصوت غير مسموع. صدام حسين ينظر إليه، وكأنه يريد أن يعرف شخصيته، الشخص يخاف رفع غطاء رأسه وهو يتحدث إليه، فلاشات الكاميرات تضيء المكان، كلما التقطت بعض الصور، فى نفس اللحظة والتو الحكومة العراقية كل وزير فيها يجلس فى منزله أمام قناة شيعية تبث لقطات من عملية الإعدام، وجورج بوش الابن فى مزرعته فى «كروفود» بولاية تكساس يلقى بطعام الإفطار لـ«مجموعة من القطط والكلاب» قبل أن ينقل له مكتبه -بواسطة الاستخبارات الأمريكية- فى البيت الأبيض خبر تنفيذ الإعدام، يصعد صدام حسين بهدوء إلى المنصة قوياً شمخاً -حسبما ذكر «موفق الربيعى» مستشار الأمن القومى العراقى الذى حضر التنفيذ- وفى يده مصحف: يقول صدام حسين وهو على طبلية الإعدام وحبل «الشنق» يتدلى بجواره «هاى المشنقة.. مشنقة العار» يردد أحد الحضور «إلى جهنم» فيرد آخر لا.. بترجاكم.. الرجل فى إعدام. ثوانى.. ينطق صدام بالشهادة.. ثم يُسمع صوت مدو، يهوى معه جسده، الهاتف يرن فى مزرعة جورج بوش: تمام.. بعد دقائق يخرج بيان كان مكتوباً وجاهزاً من مزرعة تكساس قال فيه» تنفيذ الحكم يعد مرحلة مهمة على طريق إحلال الديمقراطية فى العراق» فى غرفة تنفيذ الحكم بعد اختفاء صدام فى فتحة تحت قدميه يهتف أحد الحضور «سقط الطاغية»!

نعم سقط صدام.. لكن هل تحققت الديمقراطية فى العراق.. وهل سقط الطغاة لتعيش الشعوب فى أمان وسلام وهدوء مجرد سؤال؟

عدت للابن أحمد: هل بين أخوتك من فيهم كان يريد أن يصبح عشماوى جديد؟ قال: أنا.. كان نفسى أطلع عشماوى مثل أبى.. ولماذا لم تسر فى نفس الطريق الذى تحرك فيه أبوك؟ الظروف أخذتنى إلى مهنة أخرى فى جهاز الشرطة. فأنا خريج مدرسة التمريض التابعة لوزارة الداخلية، حيث أعمل أيضاً مع الموت، لكن هذه المرة ليس فى غرفة الإعدام، ولكن فى غرف العمليات والرعاية.

هل كنت تخاف من أبيك؟ طبعاً.. ولكن أخاف منه مثل أى طفل أو شاب يخاف من أبيه. أبى شخصية عادية جداً.. وقلبه طيب، ويحب أولاده.. ولا يرفع صوته على أحد، وعلمنا أن نخاف ربنا، ونحترم الكبير، ونحب جيراننا وأهلينا، ونساعد الناس ونحب الناس، قلت: هل كان يذاكر لك دروس مدرستك مثل أى أب؟ قال: وهل كل أب يذاكر لأولاده؟ قلت: ليس دائماً، قال: أبى هكذا ليس دائماً يذاكر لنا دروسنا، لكنه كان يسأل عن المذاكرة ويطلب منا الاهتمام بالدراسة.

قلت لعم حسين الذى انضم إلينا بعدما انتهى من شرب حجرين شيشة وسألته: لماذا تزوجت ست نساء؟ قال: خمس منهن متن جميعاً، وأنا اضطررت للزواج حتى تأتى الزوجة الجديدة، لتراعى شئون الأولاد، خاصة أنى كنت أسافر خارج القاهرة لتنفيذ الأحكام فى 12 محافظة على مستوى الجمهورية، أثناء الكلام تدخل علينا زوجته الأخيرة الست أم أحمد حاملة لنا الشاى - يكمل هو كلامه ويوجه حديثه لها قائلاً: «شكراً يا ست أم أحمد» ثم يضحك ويقول: يعنى كل زوجاتى السابقات توكلن على الله، معرفشى ليه الست دى واقفة معايا لحد دلوقتى، تضحك هى على دعابته: فأقول أنا وزميلى المصور.. ربنا يعطيها العمر يا حج حسين. وتضحك هى وترد عليه قائلة «والله باين عليك انت اللى هتقصف عمرنا.. فنغرف جميعاً فى نوبة ضحك متواصلة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل