المحتوى الرئيسى

يوسف إدريس .. حكايات من قلب العاصفة!

08/01 14:19

حريات العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا!

إدريس للشباب : لا تسألوا من قبلكم كيف تثوروا .. أو تبدعوا؟

الصحافة أعطتني الكتابة الجديدة وأخذت مني أعصابي

طفولتي محرومة .. والكتابة عوضت آلامي

نعاني غابة إبداع مزدحمة ! وشعوبنا لا تعرف “ما تريد”

صدام انتابه غرور زائف وأقدم على أبشع جرائم البشر

زعامة القاهرة  ليست “ادعاء” وصعود العواصم العربية إيجابي

لا توجد حقيقة كاملة .. والكاتب بعالمنا مجرد “بهلوان”!

منع مسرحياتي جرحني ولكن كلمتي سيجيء زمنها

حلت بالأمس ذكرى رحيل أمير القصة العربية ودليلها للعالمية يوسف إدريس. وقد اكتسب أهمية بالغة كجبرتي عصره الشاهد بإبداعه ومقالاته النارية على عصري ناصر والسادات .. فكان صاحب طلقات “الفرافير” و”المخططين” و”البهلوان” كما أشارت سهام الطبيب النفسي لجراح قاع المدينة والطبقة المتعلمة، أبحر بفهم حقيقة الحب، وظل سؤال غياب العرب يؤرقه .

ربما لذلك تظل إبداعات يوسف إدريس درساً لمريدي الأدب وقرائه والمهمومين بالثقافة على الدوام، وتظل مواقفه شاهدة على عواصف عاتية شهدتها حياة هذا الرجل ، وقد بدا أمامها هادرا أحيانا ، وديعا بأحيان أخرى .

حاولنا بذكرى عملاق القصة استعادة حلقاته النادرة بالتليفزيون المصري، وقد عبر فيها عن مواقفه بعالم السياسة والثقافة والمرأة والحب والإبداع، والأهم موقفه الذي أعلاه نصب عينيه طيلة حياته كـ”إنسان” قبل أن يكون “كاتبا”.

ظل إدريس يخفي بكل تلك الحلقات ذلك الطفل الذي حُرم حنان والديه مبكرا، واغترب عن بيته لأجل الدراسة في صباه، فراوده الخجل والقلق ولازمته عبقريته مع ذلك حتى تفوق ومارس الطب ولكنه عرف مبكرا أنه لن يكون إلا كاتبا، وقد كان طالبا ثوريا وشارك بالمظاهرات ضد الملك والإنجليز وكتب المنشورات ، كما شارك ثوار الجزائر بهبتهم ضد الاستعمار.. ولهذا لم يضع الفرصة والتحق بجريدة الجمهورية وهنا بدأ مشواره الصحفي مع مطلع الستينات .

عانى إدريس من السجن لشهور متقطعة أربعة مرات قبل الثورة وبعدها، وشهدت الكثير من أعماله  المنع ونذكر “الفرافير” و”المخططين” التي انتقد فيها سطوة عبدالناصر وقمعه للحريات، وقد هوجم بسببها من قبل “الرفاق الاشتراكيين” والذين عدوه خائنا ! وزاد الأمر سخونة حين كتب سلسلة رواياته عن التعذيب بالسجون كـ”العسكري الأسود” وقد رأى أن أشد إرهاب يمارس ضد مجتمع أن تجعل الفرد رقيبا على نفسه قامعا لحريتها.

ولم تكن علاقة إدريس بالسادات أحسن حالا، فقد كتب مقالات ضده قبيل حرب أكتوبر فمنع من النشر، وكان كتابه “البحث عن السادات” ومسرحيته “البهلوان” التي يعمل فيها رئيس التحرير بهلوانا بالسيرك ليلا ويشي بفساد المجتمع الرأسمالي سبيلا لاضطهاده من جديد. وقد دشن إدريس سلسلة من المقالات الصحفية بمجالات السياسة والأدب في الأهرام والهلال وغيرها من الصحف وتوقف عن الكتابة الأدبية رغم ذهنه المشحوذ بالأفكار لأنه وجد الشعب يعاني “أنيميا ثقافية” ويحتاج لتوعية مباشرة!

الغريب - رغم ما سبق- أن أعمال إدريس لم تمنعه من الحصول على أوسمة الدولة الكبرى عبر العصور!

اهتم إدريس بالمهمشين وثقافتهم فظهرت روايات شهيرة جسدتها أفلام روائية كـ”العيب” و”الحرام” و”حادثة شرف” و”أرخص ليال” و”قاع المدينة” وانتقد بلا مواراة التدين المغشوش في “إسلام بلا ضفاف” وروايات مثل “أكان لابد أن تضيء النور يا لي لي؟” وهي جزء من مجموعة كاملة تمزج أزمات الفقر والجهل وحملت اسم “بيت من لحم” .

وقد خرجت الكثير من أعماله ساخرة من الحياة كـ”لغة الآي آي” و”نيويورك 80” والتي يندهش فيها من شعوب صعدت القمر بعلمها ثم امتهنت جسدها لحد الرق!

في برنامج راقٍ من تراث التليفزيون حمل هذا الاسم، وقدمه الإعلامي طارق حبيب، نرى يوسف إدريس يرتجل مفردة من كل حرف هجائي.. ويرد على تساؤلات بخصوصها ..

سنرى إدريس وقد اختار لفظة “أمانة”؛ فالكاتب إن انتهك هذه القيمة أصاب عرضه الأخلاقي ومع ذلك فقد رفع إدريس مبدأ “كل ما أكتبه حقيقي” لكني “لا أكتب كل الحقيقة” ، بالطبع هناك خطوط حمراء بعالمنا العربي!

وحين يتذكر “بهلوان” مسرحيته الشهيرة يؤكد أن الكاتب بعالمنا يحتاج لتدريبات سيرك كثيرة كي لا يسقط من حبل الصراط المستقيم عبر توازنات صعبة! ويعترف إدريس أن منع مسرحياته كالفرافير والبهلوان جرحه ولكنه قرر ألا تكون نقطة النهاية وكان على علم بأن زمنا سيجيء وتكون كلمته مسموعة للجميع.

وفي “ثورة” نجد إدريس يثور شخصيا لو جرح كبريائه كإنسان، أما ثورة المجتمع فيجب أن تخلق مجتمعا أفضل لا أن تهدم كل شيء.وقد حذر الكاتب كل الحكام بأن من لا يسمع “زئير” الشعوب يخسر كثيرا .

أما في معنى “جميل” فقد علمت الحياة أديبنا أن الأحياء الشعبية والبلدان الفقيرة يسكنها بشر أكثر جمالا وطيبة من داخلهم ممن يمتلكون الرفاهية والثروة!

و”حدوتة” لا ينساها إدريس حين كان يهم باستقلال طائرة لهونج كونج ويجيئه هاجس بتغيير رحلته لمانيلا، ثم يفاجأ بخبر بصفحة الحوادث بسقوط الطائرة التي تركها فجأة! وهكذا يتثبت أن قدرات خفية بالإنسان تنبهه للأخطار لو كان صادقا مع نفسه.

أما “خبايا” الإنسان فلا غنى عنها بحياته، فكل منا كجبل ثلج لا يطفو منه سوى القمة فوق سطح المياه! وفي إحدى قصصه نجده يصور شيخ القرية الذي ظن الجميع أنه “أصم” فحكوا أمامه أسرارهم فلما علموا بوعيه بما يقال .. قتلوه!

إدريس يغفر أي “ذنب” ما عدا الأنانية، ويرى أن أزمة مجتمعنا في النفاق وعدم تقبل النقد .

ويوسف إدريس حين يسأله مقدم البرنامج عن سر تركه للطب، يقر بأنه اكتشف أنه كاتب وليس طبيبا، وسر تعاسة أغلب البشر أنهم لا يعملون ما يريدون حقا أو يدركون ذلك بعد فوات الأوان!

وحين يتأمل الكاتب ما أعطته له “الصحافة” يجد أنه الأسلوب الذي يمسك بالقاريء منذ السطر الأول، وكبار المبدعين كدستويفسكي وماركيز كتبوا فصولا يومية بالصحافة كانت حاضنة رواياتهم فيما بعد . وقد أشاد يوسف إدريس بكتاب عصره الذين صادقهم وتتلمذ على أيديهم كهيكل ومصطفى أمين ورأى أن مصر بها حركة صحفية عالمية . ولكن الصحافة أخذت منه الكثير حين يتذكر معارك شنها خصومه ضده لأتفه الأسباب وكيف كانت أعصابه تتفلت لأجلها.

يسأله الإعلامي طارق حبيب بمن تأثر في الأدب؟ فيؤكد أنه ببداياته كان يجد إغراء بأسلوب طه حسين الموسيقي في الكتابة، حتى ان عميد الأدب كتب مقدمة إحدى مجموعاته وأثبت له “عذوبة الأسلوب” ولكن الفصام جرى بينهما بعد أن اتجه إدريس للغة فنية لا تهتم بالإيقاع. ومرة ثانية يُبهر توفيق الحكيم أديبنا بلغته السهلة السريعة العميقة ، ولكنه مع ذلك كان قد قرر شق أسلوبه بنفسه. وهي نصيحة هامة يوجهها للشباب، ألا يكبلوا أنفسهم بأسلوب ومدرسة وكاتب وألا يكونوا سوى أنفسهم؛ فكلمة شباب تعني تفجير وسائل لم تكن معروفة قبلا، وقد ساعده كثيرا أنه لم يسأل هو ورفاق جيله “كيف يثوروا” وكيف يكتبوا.. لم يسألوا أيا من الكبار!

ويجد يوسف إدريس حركة ثقافية بمصر شديدة الثراء، رغم ظهور المسرح التجاري، ويعلن حبه للممثلين صلاح قابيل وعادل إمام ونور الشريف وحسين فهمي، ومن الكتاب الشباب - وقتها- محمد سلماوي.

والنقد غائب عن عالمنا العربي ، وقد أبدى الكاتب تأسفه لاستعارتنا أفكار أفلام لا تناسب مجتمعاتنا من سينما هوليود، وهي أفلام العنف.وظهور أعمال تجارية مبنية على قصص ضعيفة جدا .

مرة ثانية يعود الكاتب الكبير لتأمل الحياة، وقد رسم طريقه فيها كـ”الفنار” الذي لا يظل ماثلا أمامه مهما ضلت به خططه قصيرة الأمد .

في لحظات إدريس الإبداعية، نرى الليل المضيء أمضى تأثيرا بنفسه، وصوت إنسانيته يتحدث على الورق، رغم كل ذلك يشعر إدريس بعدم الثقة في إبداعه مهما بلغت روعته، وهو أصعب ناقد لأدبه

أما زوجته السيدة رجاء الرفاعي فقد تزوجها بالستينات، وأنجبت له ثلاثة أبناء، وكانت الصدر الحنون بحياته القاسية وبداية عهده الجديد بالمرأة بعد صرامة والدته التي لا ينساها أبدا، وربما كانت بعضا من سر مثابرته بالحياة . وإدريس يرى أن “الحب يولد من كل شيء.. ويموت حين يموت كل شيء” .

وعن القلب يقول الكاتب : لا تفكر بقلبك كي لا يتعب .. نصيحة لن أنساها للدكتور مجدي يعقوب حين أجرى لي جراحة القلب المفتوح وكانت شديدة الخطورة آنذاك.

يقول إدريس للعرب : تعلموا كيف تعيشوا .. ابتسموا وتفاءلوا ولا تتوقعوا مستقبلا مظلما.. واعملوا لأجل حياة أفضل . كما يدعوا الكاتب  لأن نعيش العصر بقوانين العصر وعقليته وليس الماضي.

هذه القلادة كانت مبعثا لحوار هام أجراه الإعلامي المصري أحمد سمير مع الأديب البارز يوسف إدريس في خضم أزمة الخليج، وكانت القوات العراقية قد اجتاحت الكويت في سابقة مؤسفة بالعالم العربي.

بدا إدريس منزعجا من تلك القلادة التي منحها إياه حاكم ظل موضع جدل وحيرة من المثقفين العرب، فهو ينفق كثيرا على المؤتمرات والمهرجانات الثقافية ويستضيف القامات الكبرى بالعالم العربي ويكرمهم، وقد منح إدريس جائزة الأدب من هناك وتبعها وسام صدام حسين، ويشهد أنه لم يتدخل مرة بتوجيه هؤلاء الكتاب نحو موقف بعينه، وكانت مصر تؤيده بحربه ضد إيران وتؤيده بإرسال الكوادر المهنية المختلفة لبناء نهضة بلاده، لكنهم مع ذلك ظلوا متحفظين لسياساته بالبلاد خاصة بعد الإهانات التي تلقاها المصريون بالعراق في مرحلة الثمانينات والتي وصلت للتفتيش الذاتي للكتاب الكبار !

يرى إدريس أن صدام شعر بتضخم الذات والزعامة بعد حرب الخليج الأولى وانتباه الغرور .

كان إدريس متألما غاية الألم من اجتياح العراق للكويت، فالاغتصاب أبشع جريمة بشرية، من أفراد أو دول، ويرى أن واجب العالم العربي الاصطفاف ضده وتشجيع الأمم المتحدة لمحاصرته كي يضطر للانسحاب، ولكن مأساة ذلك ستكون كبيرة على الشعب العراقي الشقيق! ومن طرف خفي انتقد الكاتب حالة التسلط التي تسود حكام العرب فهم لا يطلقون الحرية والكرامة المفروضة لشعوبهم.

وظل إدريس يردد أن القاهرة حملت مسئولية الزعامة الثقافية العربية لعقود طويلة بلا ادعاء، ولا يضيرها تعدد المراكز الثقافية العربية طالما خلت الأجواء من حملات التنابذ الرخيصة، ونرى حملات هجاء الكتاب المصريين .

في سهرة ثقافية جمعت الشاعر فاروق شوشة بالأديب الكبير يوسف إدريس، ألمح الأخير لمحنة أن تكون كاتبا بالعالم الثالث، حيث لا توجد مؤسسات ترعى شئون المجتمع بدولة الرفاهية، وهنا يقع على كاهلك عبء المناداة بهموم الناس وعلاجها .

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل