محمد خان رحيل رجل مهم
- من النسخة الورقية لجريدة اليوم الجديد الاسبوعية
مخرج على الطريق.. محمد خان يكتب مذكراته
«هل آخر الطريق سراب أم ممتد بلا نهاية؟ أحيانًا نفاجأ بالنهاية الصدمة فى الأفلام دون أى تمهيد، تنقطع الأحداث فجأة ويحل الظلام على الشاشة، ثم تتصاعد العناوين. قد يستوعب البعض هذه النهاية وقد ينفر منها البعض الآخر، فهى إما ذو مغزى أو مجرد نزوة إبداعية، لتصبح النهاية الصدمة بمثابة نقطة فى نهاية جملة.. كل هذه النهايات الطبيعية أو المصنوعة تنبع من واقع إيماننا بأن لحياة كل منا نهاية وحتى إذا تحرَّرت إبداعاتنا من كل القيود الدرامية المعروفة فمصيرها نهاية ما سواء على الورق أو على الشاشة، فالأحداث دائمًا تقودنا إلى نهاية حتمية...».
كتمهيد لمشهد النهاية، اختتم المخرج محمد خان رحلة كتاباته بهذه الكلمات التى يصف فيها شعوره أثناء كتابة آخر مقال له فى جريدة «التحرير» بعنوان «آخر الطريق».. 27 يناير 2015، ويشبهها بالنهاية السينمائية، التى يرى أن لها أنواعا كالنهاية الصريحة المفاجئة التى تصاحبها كلمة النهاية بالألف واللام، أو النهاية التدريجية أو المفتوحة التى قد يشار إليها بحركة الكاميرا أو بكلمة نهاية بدون ألف ولام، وكأنه لا يتحدث فقط عن نهاية طريقه فى كتابة المقالات، ولكن عن حيرته فى اختيار مشهد رحيله وموعده وطريقة تصويره وإعلانه، و اختار لنهايته أن تكون مفاجئة وصادمة ومفتوحة أيضا إلى ما لا نهاية بدون ألف ولام..
عُرف محمد خان مخرجا وسينمائيا ومؤلفا ولكن ظلت كتاباته فى الصحف جزءا غير معروف عنه، إلى أن جمعها فى كتابه الحديث «مخرج على الطريق»، وهو عنوان عموده الأسبوعى فى جريدة «التحرير» والمأخوذ من اسم فيلمه «طائر على الطريق»، يحكى خان فى مقالاته عن ذكرياته وكواليس أعماله وتجاربه الحياتية، وتجنب التحول إلى ناقد فنى بسبب اعتزازه بكونه مخرجا ولأنه لا يزال يعمل، ولكن ذلك لم يمنعه من الكتابة حول المشكلات والأزمات التى تواجهها صناعة السينما وتقديم الحلول لها أيضا.
مشكلة تصنيف الأعمال حسب أعمار ممثليها ومخرجيها استحوذت على كتابات خان، فتطرق لها فى أكثر من مقال، ربما لكونه تأخر كثيرا فى إخراج أول أعماله الروائية الطويلة، بفيلم «ضربة شمس» وهو فى الـ36 عاما، فيقول فى مقال بعنوان «بين المخرج الشاب والمخضرم»: «احترت من إصرار النقاد على وصفى بالمخرج الشاب وحتى حين بلغت الستين. اليوم وقد تعدّيت السبعين أصبحت بالنسبة إليهم المخرج الكبير أو المخضرم..». وذكر خان فى مقاله العديد من المخرجين الكبار والذين لا يخضعون لهذه التصنيفات ويعملون بطاقة أكثر من الشباب، وتابع رفضه ربط السن بالإبداع قائلا: «هذا بالذات كان دافع التحدّى بالنسبة إلىّ حين أخرجت فيلمى فى مهد الديجيتال «كليفتى» (2004)، و«بنات وسط البلد» (2005)، وأفلام أبطالها فى العشرينيات من أعمارهم، بينما أيامها كنت فى العقد السادس من العمر»، وفى نفس الوقت انتقد خان ظاهرة استمرار النجوم الكبار فى العمر كشباب فى أفلامهم، واعتبر ذلك تحايلاً وألاعيب، وموسعا للفجوة بين السينما والشباب، وقال ذلك فى مقالته بعنوان «سينما عجوز أم متصابية؟»
شخصيات أفلامه تمنحه الجنسية المصرية
طوال حياته ظل ينتظر الجنسية المصرية، ويتمناها حتى حصل عليها منذ عامين، وانطلقت الحملات والدعوات لمنحه الجنسية المصرية منذ أول أفلامه إلى فيلم «فتاة المصنع»، وكان «قبل زحمة الصيف» أول وآخر أفلامه كمخرج بجواز سفر مصرى، وكان تشبيه أعماله بـ«المصرية الخالصة» أكثر الردود التى تسعده وترضيه، والتى يقول إنه سمعها لأول مرة من الناقد سامى السلامونى، على فيلمه القصير «البطيخة» عام 1972، حتى إنه علق المقال الذى احتوى على هذه الجملة على حائط غرفته فى لندن قبل رحيله عنها.
وبعد حصوله على الجنسية بشكل رسمى، خصص لها مقالا بعنوان «الطريق إلى الجنسية»، نسب فيه هذا الفضل إلى شخصيات أفلامه المصرية حتى النخاغ، كما قالها السلامونى أول مرة، ويقول خان بعد
أن حكى ذكريات طفولته وهو «باكستانى»: «أقع فى غرام سينما أصبحت اليوم جواز سفر حصولى على الجنسية بسجل أفلام عبرت عن عالمى المصرى حتى النخاع، بدءا من حامل البطيخة إلى شمس بكاميرته»، وصولا إلى: «وأخيرا هيام بتاعة المصنع اللى عرفت تحرر نفسها. كل هذه الشخصيات والأفلام تنفست ومهدت الطريق إلى الجنسية ولها الفضل فى مصريتى»
حلم العمل مع سيدة الشاشة
كان خان يحلم بعمل فيلم يجمع بين سعاد حسنى وفاتن حمامة، وكان حلمه الأكبر العمل مع فاتن حمامة، والذى يصفه بحلم فنان لم يتحقق، وذكر محاولاته لتحقيقه فى مقال حمل هذا الوصف، وقال إنه فكر فى ذلك جديا لأول مرة أثناء تحضيره لفيلم «أحلام هند وكاميليا»، وعرض شخصية كاميليا على سعاد حسنى قبل أن يعرض «هند» على فاتن حمامة، ولكن رؤيته للشخصيتين اختلفت تماما بعد جلسته مع سعاد التى كانت لها رؤية مختلفة تماماً لـ«كاميليا»، فلم يعرض على فاتن الشخصية ولكنه ظل يحلم بالعمل مع فاتن حمامة حتى وفاتها، ويقول فى مقاله عن أول مقابلة له مع فاتن فى مهرجان قرطاج بعد عرض فيلمها «يوم حلو ويوم مر»: من المخرج الذى لا يرغب فى أن يعمل مع فاتن حمامة؟! اقترحت حينذاك على فاتن أن لو جمعنا فيلم فأريدها فى دور قاتلة، فكان ردها الذكى هو أنها على استعداد أن تقوم بدور قاتلة، بشرط وجود أسباب درامية مقنعة.
"الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"
والمبدعون يبقون بيننا، حتى إذا ماتوا انتبهنا أننا سنفتقدهم، وسنفتقد برحيلهم الكثير من الفن والإبداع والحياة، سيدور كلام الناس كثيرًا حول "محمد خان" ـ رحمة الله عليه ـ وسيستعيد الناس والكتّاب ومحبي السينما وجمهور أفلامه العظيم سيستعيدون الكلام والكتابة عن أفلامه وكتاباته وحياته، ولكن ما سيؤلمنا أكثر ولن يزول أثره مهما فعلنا، هو أن الرجل رحل عن عالمنا بالفعل، وتركنا وفي قلبه وعقله آلاف الأفكار والأفلام والحكايات التي كان يود أن يزيّن بها قبح عالمنا، ويعرض لنا تفاصيل تخفى عنّا بين عشرات بل مئات الأفلام التي لا تعرض إلا السخيف والتافه!!
يبقى عزاؤنا الوحيد هو أفلامه الباقية وأفكاره وكلماته التي سيخلدها الزمان ولاشك، سواء في أعماله السينمائية التي تشكل كل واحدة منها علامة فارقة في تاريخ السينما، أو في ذلك الكتاب الجميل الذي أحسن إلينا حين جمع فيه مقالاته التي كانت متناثرة في الصحف، ولم يكن يعلم أنها ستكون آخر مصافحة لجمهوره "مخرج على الطريق"
نخطئ كثيرًا حينما نعتقد أن إشادتنا أو إشارتنا إلى العمل الجميل لن تضف شيئًا، خاصة إذا كان ثمة إجماع على هذا الأمر، لنكتشف بعد فوات الأوان أننا نحن من كنّا في حاجة لأن نتوقف قليلاً أمام كل مشهدٍ ولقطة جميلة لنمنح أنفسنا فرصة أخرى للاستمتاع بالجمال والإشارة إلى الناس كلهم لكي يعرفوه ويتوقفوا عنده أكثر من مرة!
شاهدت فيلم خان الأخير "قبل زحمة الصيف" ذات صباح صيفي رائق، وخرجت من السينما مشبعّا بحالة سينمائية قلّ أن أجد مثيلاً لها، وقلت لنفسي هذه هي السينما، كمعزوفة موسيقية لا يمكن وصفها ولا تحليلها إلا بالانغماس فيها مرة أخرى، وكنت قد وعدت نفسي أن أشاهده مرة أخرى، ولكني لم أفعل!
"قبل زحمة الصيف" فيلم هادئ وبسيط تلك البساطة المعجزة، وسهل ذلك تلك السهولة الممتنعة، لا يمكن في ظني لأي مخرج أن يقدمه على هذا النحو الذي جاء به، والذي حملته بصمة "خان"، الصراعات التي تمور في نفوس أبطاله تبدو عادية وعابرة، هو يقدم لنا الحياة كما هي، في لوحة من خلال خمس شخصيات لا أكثر، ربما أشار الكثيرون، ويشيرون أثناء حديثهم عن الفيلم أنه خارج إطار ما اعتادوه في عالم "محمد خان" من حديثٍ عن طبقات متوسطة أو فقيرة، وداخل "القاهرة" نفسها، ذلك أن الفيلم يحمل اسمًا آخر هو الكاتبة "غادة شهبندر"، ولكن "خان" لم يتنكّر لتلك الطبقات أو يبتعد عنها، بل جرّب هذه المرة في منطقة أخرى مغايرة، وأعتقد أنه وفق إلى حدٍ بعيد في رسمها بدون أن يحمّلها ما لا تحتمل من رسائل زاعقة أو خطابية!
وتجدر الإشارة هنا إلى الحكاية التي حكاها "محمد خان" عن فكرة الفيلم أصلاً وكيف جاءته أثناء وجوده مع زوجته في "قرية سياحية" بمفردهم، وأنه طلب من الكاتبة "غادة شهبندر" أن تكتب سيناريو الفيلم نظرًا لقربها من عالم تلك الطبقة الارستقراطية، وأنها كتبت السيناريو بالإنجليزية وأضاف إليه "خان" بعض المشاهد التي رأت أنه كان فيها إضافة مهمة جدًا للفيلم.
ولكني لم أشاهد في الفيلم أصلاً ذلك التمايز الطبقي الحاد، فرغم أن (دكتور يحيى) /"ماجد الكدواني" وزوجته قادمان من عالم الارستقراطيين إلا أن "خان" قدمهما "كنماذج إنسانية" عادية، رجلٌ صاحب مستشفى يهرب من الورطة التي وجد نفسه فيها، يقضي يومه في مراقبة الجميلات والأكل ويحاول أن ينسى همومه، فيما زوجته مشغولة "بطريقتها" بالانشغال بالتأمل والنظام الغذائي المتزن، تبدو غير قادرة على إسعاد زوجها رغم أنها تبقى بعيدة عنه كارهة لتصرفاته.
من جهةٍ أخرى نجد "هالة" المثقفة المطلقة التي تبحث عن حبٍ جديد تتورط في علاقة غير مستقرة ولا متكافئة بذلك الممثل المغمور الذي تكتشف أنه يستغلها وتقاومه لتكمل حياتها.
على الجانب الآخر تظهر شخصية "جمعة" التي أداها الممثل الشاب الموهوب "أحمد داود" باحتراف شديد، ذلك العامل الريفي البسيط الذي يضعه القدر في طريق هؤلاء الأثرياء، والذي ينظر لهم نظرة تجمع بين الإعجاب والحقد، فيحلم بأن يكون له علاقة من نوعٍ خاص بتلك السيدة الجميلة "هالة" ولكنها تظل مجرد أحلام وأماني!
هذه الحياة على اختلاف صراعاتها ومنغصاتها ومشاكلها تمر كـ "سحابة صيف" وتبقى لحظات الفرح والمتعة التي نختلسها من الزمن اختلاسًا، كلما مرت علي حالة هذا الفيلم تذكرت كلمات "المخزنجي" في واحدة من قصصه البديعة
(مع ذلك ، ورغم ذلك ، يظل وجودنا في هذه الحياة على تكاثر آلامها وتضاؤل وابتعاد أصغر الأماني فيها .. يظل جديرا ببعض الفرح .. على الأقل فرح التنفس من هواء الصبح الطازج كل يوم من جديد. أليس كذلك!)
يبقى ـ مرة أخرى ـ أن هذا الفيلم من وجهة نظري يمثل "حالة خاصة" إمّا تتقبلها كما هي، أو تعرض عنها ولا تصل إليها أبدًا، ربما لهذا السبب لا أنصح به الكثيرين، ولكني على يقين أنه سيعجبهم وستبقى شخصياته الفريدة المرسومة بدقة نماذج تستعاد كما نستعيد كل أبطال أفلام "محمد خان" الذي لن يموت أبدًا ..
يمكننا أن نتحدث كثيرًا عن ـأفلام "محمد خان" وشخصياته، ولكني أحب أن أعود إلى كتابه بين الحين والآخر، ورغم أن الكتاب في أغلبه يتحدث عن الأفلام وعلاقته بالممثلين، إلا أنه أيضًا يحوي بعض أفكاره وروحه وعلاقته بالأشياء من حوله، من المقالات التي استوقفتني مقالة كتبها يتحدث فيها عن "لحظة الفجر و شقشقة العصافير" وعلاقته الجميلة بالانترنت يقول:
( على الرغم من أن مكتبي يقع في الدور الثاني عشر، ولا تحيط بى أى أشجار، والفضاء هو ما يفصل بينى وبين السماء، فالعصافير تجد طريقها لتواسى وحدتى الصباحية عبر زجاج نافذتى، وتشاركنى الاحتفاء بفجر كل يوم جديد.
تحليلى لهذا الطقس اليومى يعود بى إلى أيام المدرسة والسكن فى أرض شريف بمحيط شارع عبد العزيز وميدان العتبة، فكنت أول من يمر عليه أوتوبيس المدرسة، وآخر من يوصله فى نهاية اليوم الدراسى بالنقراشى الابتدائية ثم الإعدادية فى حدائق القبة.
منذ ذلك الحين وتعودت حواسى أن توقظنى دون الحاجة إلى جرس منبه أو نداء أم، بل وصل بى الحال التعود على المذاكرة، وحل الواجب فجرا بدل من السهر ليلا. لم أتصور أبدا أن هذه العادة ستصبح فى يوم ما مخالفة لنمط الحياة حولى. فمن أريد الاتصال بهم يتطلب انتظارى ساعات طويلة حتى لا تصبح مداخلتى معهم إزعاجا، وحتى من سيشارك حياتى لن يشاركنى طقوس الصباح مع كوب الشاى أو القهوة وعلى انتظارهم.
حتى الشارع لن يرحب بى فى هذا التوقيت، وبائع الجرائد على الناصية لن يكون قد وصل بعد، فكل شىء أصبح توقيته متنافرا مع توقيتى، إلى أن وصل المنقذ الكبير لعزلتى الصباحية «الإنترنت»، فهو تواصل بلا توقيت وبلا إحراج، عالم أستطيع دخوله فى أى وقت، وأن أعبر فيه عن مشاعرى دون حواجز، وأن أخاطب من أشاء دون انتظار الرد المباشر أو الفوري، وكأن هذا الاختراع العظيم وُجد من أجلى، ومن أجل أمثالي من أهل الفجر.)
ولا أجد في النهاية خيرًا من قصيدة الصديق الشاعر الجميل "خلف جابر" التي كتبها ارتجالاً حينما عرف خبر وفاة "محمد خان" وقال فيها:
ولو ارتضيتي الضحك يصبح نشيد
زي الكلام ما بيجري وقت الغضب
زي الحنين لما بنقول هنداريه
ابقي اجمعي كل الكلام لو زاد
وابقي احضنيني لذاتي مش كوني ابنك
بعد أما فوقتي من الولادة وقالوا ابنك
مش برضو كنتي هتدمعي.. و هتحضنيه
او يعجنوه قالب في حيط لفقير
حفنة تراب مالهاش في نوم القصر
Comments