المحتوى الرئيسى

أفقر الفقراء | المصري اليوم

07/30 05:05

كان يوما أنهك جسدى وروحى. أسقام البدن واغتراب الروح. وتلك الكآبة التى تظلل مصر كغربان سود. والكل مشدود مذعور من انهيار العملة المصرية، وتسارع هبوطها فى أيام معدودة.

الجميع من خوف الفقر فى فقر، لا حديث بين الأصدقاء إلا عن الانكسار المرتقب، نتناقل أسعار الدولار كل ساعة كمدينة محاصرة اجتاحتها الشائعات عن غزو يقترب ويوشك أن يقتحم أسوار المدينة.

اقترب الغروب ووجدت نفسى على مقربة خطوات من حديقة النادى فلم أتردد، آملا أن أحظى ببعض السكينة، وأعيد ترتيب ذاتى المبعثرة.

مكانى المختار ـ فى أبعد ركن مطل على الحديقة المزهرة- وجدته خاوياً لحسن الحظ، فحملت معى كوب الشاى الورقى، وجلست مسترخيا أتطلع لأزهار الربيع متأملا.

وهبت نسمة اختزنها الشتاء خصيصا من أجلى. وحين اقتربت أطلق سراحها لتمسح عن جبينى تعب اليوم، ورحت أرشف كوب الشاى فى استمتاع حقيقى، وأنا أستمع لأغانىّ المفضلة التى أنزلتها على جهاز الهاتف المحمول، وراحت تنساب إلى روحى -عبر سماعة الأذن الصغيرة- ثروة الأناشيد، حتى خلت أننى فى فردوس مفقود غفل عنه البشر.

وفجأة انسابت إلى روحى أغنية تجمع أشعار الرومى والتبريزى لحظة لقائهما. الدرويش الغامض، حامل الشعلة، يوشك أن يمس روح الرومى، المنذور للحب الإلهى، بشعلته المقدسة.

لم أكن قد تعمدت الاحتفاظ بالأغنية، ولكنها تسربت دون قصد منى، وكأن لها إرادة مستقلة، وكأنها تنتظر تلك اللحظة الفاصلة كى تمسح على جبينى وتهدد روحى.

الأغنية باللغة الفارسية! هذا معناه أننى لم أفهم حرفا، لكنى كنت أتذكر ـ بالكامل- كلماتها التى وصفتها فى مقال سابق بأنها (الكلمة تزن طنا).

أذكر الدرويش الغامض شمس التبريزى وهو يخاطب الرومى بلغة الرمز: «هذه الدنيا سجن ونحن المساجين/ احفر سجنك واعتق ذاتك».

وأذكره أيضا وهو يقول: «احمل أمتعتك والتحق بالقافلة/ الإنسان مثل سفينة وشراعها/ إلى متى يحرك الريح هذا العبء؟!».

وأذكر جلال الدين الرومى وهو يقول له:

«حمدا لله أننى رأيت وجهك/ لقد أصاب الوهن عينى من البكاء/ قد تساءلت: أين الخلاص وأين الوصال؟».

لاحظوا معى: الرومى كان قبل قدوم التبريزى رجلا مبجلا شديد الثراء. الضياع والدور الفخمة والدنانير الذهبية! أى المرادف العصرى لأثرياء الدولار وسكان قصور التجمع الخامس.

أما التبريزى فكان درويشا شديد الفقر. المرادف العصرى لفقير مصرى من عامة الشعب لا يملك قوت يومه.

ولكن انظروا: كلاهما لم يفكرا فى المال الذى تقطعت قلوب العباد حسرة عليه.

كلاهما لم يريا فى الدنيا سوى فردوس للحب ومعبرا للحياة الخالدة! روحان عاشا بين الناس فى وقت ما، وضعا الدنيا تحت أقدامهما ثم تجاوزاها، لم ينتبها إلى وجودها من الأصل تحت أقدامهما، لأنها ـ بالنسبة إليهما- من سقط المتاع الذى لا يُلتفت إليه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل