المحتوى الرئيسى

أيرلندا وحوار التقشف

07/29 13:46

يستشهد كل من طرفي المناقشة الدائرة حول إجراءات التقشف بمنطقة اليورو لمواجهة أزمتها المالية، بالتجربة الأيرلندية كدليل يؤكد حجته. ومهما حاول الطرفان توصيف البلد باعتباره الممثل النموذجي لحجته، فإن أيا منهما غير قادر على إقناع الآخر.

ورغم هذا فإن لعبة "شَدّ الحبل" هذه بين الطرفين مهمة، لأنها تصور النطاق المعقد للحجج المطروحة. وهي توضح لنا فضلا عن ذلك السبب الذي يجعل من صنع السياسات الاقتصادية الأكثر حسما عملية بالغة التعقيد والمراوغة.

إليكم أولاً تَذكرة سريعة بتاريخ أيرلندا الاقتصادي الحديث البائس، لقد انغمست البنوك الأيرلندية في الإقراض المفرط، بعد أن ارتكنت إلى الرضا عن الذات والتجاوزات بفضل المدد الوافر من التمويل الرخيص اصطناعيا.

وتخطى الميل غير المسؤول إلى خوض المجازفات والجشع المفرط كل حدود التنظيمات التحوطية والإشراف الحكيم. وانتهت الحال بالنظام المصرفي إلى تغذية عمليات المضاربة على نطاق واسع، بما في ذلك ارتفاع غير عادي في أسعار العقارات، وكانت النتيجة الطبيعية أن يجثو النظام على ركبتيه عندما انفجرت الفقاعات.

وخلافاً للعديد من الأسر الأيرلندية التي فقدت وظائفها وجزءاً من ثرواتها، فقد اعتبرت البنوك "أكبر من أن يُسمَح لها بالإفلاس"، وعلى هذا فقد تدخلت النخب السياسية في أيرلندا بالتمويل من الدولة. ولكن بسبب استخفافها بالجوانب المحلية والدولية من المشكلة، تسببت السلطات في تحويل مشكلة مصرفية إلى مأساة وطنية.

وبدلاً من استعادة البنوك عافيتها المالية وضمان السلوك المسؤول، انزلق الاقتصاد الأيرلندي ككل إلى الأسفل. فانهار النمو، وارتفعت البطالة إلى عنان السماء.

ومع الافتقار إلى الفرص، ارتفعت معدلات الهجرة وهي تَذكِرة قوية بالكيفية التي عاثت بها الأزمات الاقتصادية فساداً في التركيبة الديمغرافية (السكانية) للبلاد طيلة تاريخها.

وانسحب المستثمرون زرافات ووحدانا من الاقتصاد الذي أطلق عليه ذات يوم وصف "النمر السلتي" (كناية عن سرعة نموه وازدهاره).

ولم تجد الحكومة أمامها خيارا آخر غير طلب الإنقاذ من "الترويكا" -صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية- وبالتالي نقل مكون مهم من مكونات الإدارة الاقتصادية الوطنية إلى مجموعة من المؤسسات الهشة المصممة لغرض محدد، والمتناحرة في بعض الأحيان.

ورغم أن دولاً أخرى منكوبة في منطقة اليورو لجأت أيضاً إلى الترويكا، فإن حالة أيرلندا كانت متفردة بطريقتين متميزتين على الأقل. فأولا، عملت حكومتان منتخبتان ديمقراطيا بكل ثبات على تنفيذ برامج التقشف المتفق عليها دون احتياج إلى تنازلات وتعديلات، وبالتال، من دون الدراما السياسية المصاحبة.

وثانيا، على الرغم من تحمل قدر كبير من الآلام، فإن المجتمع الأيرلندي ظل متمسكاً بالبرنامج، منظماً بضعة من احتجاجات الشوارع التي كانت شائعة في دول أخرى تضررت بالتقشف.

وكل هذا من شأنه أن يضع أيرلندا في وسط ثلاث قضايا مهمة أثيرت في المناقشات بشأن التقشف: هل السياسات التقليدية، بتأكيدها الشديد على تخفيضات الموازنة الفورية، قادرة على استعادة الظروف اللازمة للنمو، وتحقيق مكاسب تشغيل العمالة، والاستقرار المالي؟ وهل الفوائد المترتبة على عضوية منطقة اليورو لا تزال أكبر من تكاليفها بالنسبة للبلدان التي يتعين عليها أن تعيد هيكلة اقتصادها؟ وكيف لاقتصاد صغير مفتوح أن يتموضع إستراتيجياً في عالم اليوم؟

يشير أنصار التقشف إلى حقيقة مفادها أن أيرلندا أصبحت على وشك "التخرج" في برنامج الترويكا. فقد استؤنف النمو، وانخفضت علاوات المخاطر بحدة، وعادت مستويات الاستثمار الأجنبي إلى الارتفاع، وازدهرت الصادرات.

وهم يزعمون أن كل هذا يوفر الأساس للنمو المستدام وانخفاض معدلات البطالة. ويخلصون إلى أن أيرلندا أصابت عندما قررت البقاء في عضوية منطقة اليورو، وخاصة لأن الاقتصادات الصغيرة المفتوحة غير المستقرة من الممكن تتضرر بسهولة بفعل اقتصاد عالمي سائل.

"ولكن ليس بهذه السرعة"، يقول الجانب الآخر. يشير منتقدو التقشف إلى حقيقة مفادها أن الناتج المحلي الإجمالي الأيرلندي لم يعد بعد إلى مستوى عام 2007. فالبطالة لا تزال مرتفعة للغاية، مع مستويات مثيرة للقلق من البطالة الطويلة الأجل والبطالة بين الشباب.

وتظل الديون العامة أيضاً أعلى مما ينبغي، وما يزيد الطين بلة أن قسماً كبيراً منها مستحق الآن لدائنين ينتمون إلى القطاع الرسمي وليس الخاص، وهو ما من شأنه أن يعقد عملية إعادة هيكلة الديون إذا أصبحت ضرورية.

يرفض المنتقدون الحجة القائلة بأن الاقتصادات الصغيرة المفتوحة تصبح في حال أفضل بالضرورة في ظل اتحاد نقدي، مشيرين إلى مدى نجاح سويسرا في التكيف. وهم يعربون عن أسفهم لأن عضوية منطقة اليورو تعني أن "خفض القيمة داخليا" في أيرلندا، وهو ما يشتمل على تخفيضات كبيرة في الأجور الحقيقية، لم يأخذ مجراه بعد.

والواقع أن البيانات الخاصة بالتجربة الأيرلندية -بما في ذلك الافتقار إلى البيانات المرتبطة بالاحتمالات في ظل ظروف مختلفة- ليست قاطعة إلى الحد الذي قد يجعل أحد الجوانب يعلن عن انتصار حاسم.

ورغم هذا فهناك بعض الأخبار التحليلية الطيبة. إن أيرلندا تقدم لنا رؤى مفيدة في محاولة فهم الكيفية التي نجحت بها أنظمة اجتماعية سياسية، بما في ذلك الدول المدمرة اقتصادياً مثل قبرص واليونان، في التكيف حتى الآن مع الصدمات التي كانت غير متصورة في الأساس قبل بضعة أعوام فقط.

في زيارتي الحالية، يقول أغلب المواطنين الأيرلنديين الذين تحدثت معهم إن البلاد لم يكن لديها أي خيار سوى مواصلة مسار التقشف.

ورغم أنهم يقدرون الحاجة الملحة إلى النمو وتوفير فرص العمل، فإنهم يعتقدون أن هذا لا يمكن تحقيقه إلا بعد إعادة وضع الموارد المالية في أيرلندا على أساس سليم. وهم يزعمون أيضاً أنه نظراً للتصرفات غير المسؤولة من قِبل البنوك، فلا توجد وسيلة سريعة لتعزيز التوسع المستدام. وحتى الآن، يشعرون بالغضب من المصرفيين، ولكنهم لم يكتسبوا بعد العقاب المناسب.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل