المحتوى الرئيسى

رامي وفا يكتب: فقط.. افعلها على طريقة سيد سالم

07/29 10:45

سيد سالم عازف الناي الشهير بفرقة أم كلثوم والذي لازم العزف في فرقتها منذ عام 1950 تقريبًا حتى وفاتها، وهو صاحب تفريدة الناي الشهيرة بأغنية “بعيد عنك” في حفلة قصر النيل 2 يونيو 1966.

الحادية عشر ليلًا – 1 يونيو 1966:

عاد سيد سالم إلى منزله بعد انتهاء بروفات فرقة أم كلثوم استعدادًا لحفل الغد الذي ستغني فيه أم كلثوم أحدث أغانيها (بعيد عنك)، الأغنية من كلمات مأمون الشناوي، وألحان بليغ حمدي، شيء ما يشي بأن تغيرًا يعتمل في داخله ويحاول إخفاءه، يبدو مثل سيزيفيوس في رحلة معاناتِه اللانهائية، ينطبق عليه ذاك التأثير الذي أطلق علم النفس عليه (تأثير البطة) انطلاقًا من أن البطة التي تسبح في النهر تظهر من أعلى في غاية الهدوء، لكنها من أسفل المياه تحرك أقدامها بشدة لتتمكن من السباحة.

دخل حجرته مُتعبًا، منهكًا، مُحملًا بأفكارٍ ربما يعجز حتى عن البوح بها لنفسِه، يحاول الهروب منها بالحديث مع زوجته واللعب مع أطفالِه الثمانية ومداعبتهم.. لكن هيهات، هيهات يا سيد.

يجلس سيد في بلكون شقتّه، يتناول حبَّتين للصداع، أمامه كوب من الشاي، ينظران لبعضهما كصديقين حميمين لم يفترقا أبدًا، والشاي مُستمع جيد بطبعِه، والأهم أنه ينتهي بعد الحكي معه، كأنك أطلقت ما في نفسك في هوة عميقة لن يصل إليها أحد أبدًا.

أكثر من ستة عشر عامًا يا سيد في فرقة الست، تحفظ كل جملة موسيقية في أغانيها عن ظهر قلب، تدرَّب مع العازفين ساعات طويلة يوميًا لأن (الست) لا تحب أن يستخدم عازفوها النوتة، ولا تحب أن تحدد ما ستغنيه بالضبط في حفلتها القادمة، ستة عشر عامًا من العمل والضوابط والصعوبات والالتزامات، والآن.. من يعرفك؟ من يسمع بك؟ عندما تغني (الست) أغنية، فلا داعي لمعرفة شيء آخر غير أنها أغنية الست، ربما يتذكر بعض المهتمين أحيانًا اسم الشاعر أو الملحن ليعقدوا المقارنات بين السنباطي وعبد الوهاب وبليغ مثلًا، كم تتمنى أن تعزف بحرية كما كنت تعزف في صغرك، و(الست) حازمة جدًا وصعب التنبؤ برد فعلها، كم مرة أردت في البروفات النهائية إضافة شيءٍ جديد، لكن خوفك من إغضاب الست وإرباك الفرقة أسكتك، كم جملة موسيقية جديدة طرأت إليك في لحظة سلطنة في حفلٍ وقررت إسكاتِها للأبد، إلى متى يا سيد ستظل حبيس نوتاتك الموسيقية؟ متى تتحرر من كل قيود العالم لتقول كلمة أنت تريد بحق أن تقولها، كلمة تخرج متى تخرج، لكن تشعر في داخلك أنك استرحت لإطلاقها؟ نم يا سيد.. نَم، غدًا ستفعل ما تفعله طوال سنين حياتك، ولا جديد تحت الشمس.

يستيقظ سيد سالم، يقف أمام المرآة ليغسل وجهه بعد نومٍ لم ينمه، عيناهُ لازالت تحمل نفس أسى الليلة الماضية، يضبط شاربه وشعره، يفكر في حفل الليلة، تبدأ ذكرياته في التدفق ككرة ثلج صغيرة تتدحرج بسرعة، يتذكر نشأته الصعيدية، نايه الأول الذي صنعه بنفسه من الغاب وهو في العاشرة من عمره، يتذكر استنكار والده لأن يهوى ابنه الوحيد الفن والموسيقى، ثم تعنيفه وضربه ليُقلع عن عزف الناي، يتذكر هروبه من والديه في الثانية عشر من عمره ليعيش مع خالته في القاهرة، يتذكر الأستاذ شفيق رئيس معهد الموسيقى وأول من آمن بموهبته، يتذكر الإذاعة المصرية وبديعة مصابني ومنيرة المهدية ومحمد قنديل وتحية كاريوكا وغيرهم، ويتذكر يوم تعرَّف على أم كلثوم وانضمامه لفرقتها وهي التي تختار عازفي فرقتها بدقة بالغة، يتذكر شعوره بالفخر آنذاك أمام زوجته وصغارِه، يتذكر ويتذكر.. يغسل وجهه ويخرج ليبدِّل ملابسه.

2 يونيو مساءًا: حفل قصر النيل:

يجلس سيد سالم محملًا بصراعاته الداخلية في مكانه المعتاد خلف الست بجوار محمد القصبجي، يستعد العازفون كلٌ على آلته، الأجواء مشحونة ورائقة في ذات الوقت، مشحونة لأن الجماهير العريضة تنتظر الكثير من (الست) وفرقتها، ورائقة لأنها (الست)، تدخل الست ليحييها الجمهور تحية عظيمة منتظرين بشغف ما ستقدمه هي وفرقتها لهم اليوم، ومتى صعدت (الست) خشبة المسرح، فإنه يصبح مكانًا مقدسَّا له هيبته ووقاره، وتبدأ ملحمة “بعيد عنك” بالكمانجات على مقام الكرد وسط صيحات عالية من الجمهور، ليدخل بعدها الإيقاع على واحد من مقامات بليغ المفضلة، خصوصًا مع (الست).. مقام البياتي.

ها قد بدأت اللعبة يا سيد، فماذا أنت بفاعل؟ هل لديك الجرأة للتمرُّد ولو لمرة واحدة؟ هل لديك الجرأة لتحمُّل نتيجة تمردك؟ رُبَّما لا يتقبَّل الجمهور زخارفك الموسيقية، لكن الجمهور ينسى، الجمهور في النهاية لا يملك النوتة الموسيقية، فلن يعرف بسهولة الأصل من الزخرف، ماذا إذا لم تتقبلها (الست)؟ ماذا لو قررت الاستغناء عنك يا سيد والإتيان بعازف ناي أكثر التزامًا منك على المسرح؟ عازف ملتزم لا يفاجئها على المسرح برقصات جديدة على آلتِه؟ ماذا ستفعل لو التفتت لك غاضبة؟

ماذا لو استهجن العازفون الآخرون تفريداتك واعتبروها مراهقة موسيقية متأخرة أو حبًا للظهور ولو على حساب الأغنية؟ ها هي الدقائق تمر وأنت إلى الآن تقوم بدورك كما ينبغي لك، فلتكتفي بهذا يا رجل، أليس (محمد عبده صالح) قانونجي لم تنجبه ولادة؟ أتظن أنك أفضل مثلًا من (أحمد الحفناوي) أو (عبد المنعم الحريري)؟ أتظن أن نايك أهم من كونترباص (عباس فؤاد)؟ ها هم كلهم ملتزمون بما أدوه في البروفات؟ وها هو الجمهور مستمتع ولن تزيده تفريداتك طربًا على كل حال، إذن لماذا تعكِّر هذا الصفو وتتمرّد؟ ليس ثمة سبب منطقي وحيد لتفعل هذا يا رجل.

إذن ها أنت توثر الالتزام مثل كل الذين عاشوا يتلمسون الحوائط؟ لكن أنت لست مثل أحد يا سيد، أنت الصعيدي الذي صنع آلته من الغاب.. الذي ضربه والده غضبًا من الموسيقى، لكنه فضَّلها حتى عن أهله، أنت الفتى الهارب من والديه لتروس القاهرة التي تطحن الكبار قبل الصغار، أنت الذي تمردت على مستقبلك الروتيني، تمردت على أهلك، مررت بكل الصعاب واستطعت تخطيها.. أنا لا أصدق أنه أنت الجالس على الكرسي الآن خائفًا من مجرد خروج بسيط عن المألوف؟

ربما لو رآك والدك الآن وأنت خائف من امرأة تغني خلفها، لندم أنه لم يقطع يدك التي تعزف بها، ستموت يا سيد ولن يتذكرك أحد، أليس لك الحق أن تفعل ما تريده ولو لمرة واحدة؟ أليس لك الحق أن تعود إلى الفتى الصغير الذي يعزف بجوار الترعة ولا أحد يستطيع أن يُملي عليه ما يعزف؟ أليس من حق زوجتك وأولادك أن تلتقط أذنهم الموجهة للناي دائمًا ولو نفحة صغيرة من الخروج عن النظام؟ ألا يحق لزينب أن تشير لإخوتها هاتفة “بابا أهو”؟ ألا يحق لك أن تنتزع صيحة واحدة من الجمهور يتذكَّرك بها؟ ماذا تنتظر يا سيد؟ ماذا؟

ولا الأيام بتبعدني بعيد عنك)

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل