المحتوى الرئيسى

بعلم الوصول .. لطلبة الثانوية العامة ..

07/27 17:32

"سهى.....؟" نطقها أستاذي أخيراً بعد أن جفت الدماء في عروقي، فوقفت أرتعش من أثر الصدمة، لا أتصور أني رسبت! كان يقرأ درجاتنا بترتيب تنازلي، وكان قد انتهى من مناداة الناجحين، وبدأ في قراءة أسماء الراسبين من دقائق مرت عليّ كأنها دهراً،، سيطرت على رأسي فيها أفكار متضاربة هل ضاعت ورقة إجابتي؟ هل اختلطت بورقة شخص آخر؟ لقد كنت أتوقع الحصول على درجة مرتفعة!

قال أستاذي مستنكراً ومشفقاً: "الدرجة النهائية، انتِ كده في كل المواد؟!" أجبته بصوت من رُدت فيه الروح من جديد: "لأ"، ولم أُزِد فلم أكن قد تملكت أعصابي بعد.

أكمل أستاذي: "ممتاز جداً، الحمد لله"، وأشار لي بالجلوس، وأكمل موجهاً كلامه لنا جميعاً:

" عندي ابنين؛ الأول مهندس متفوق دايماً عمره ما سقط، بيطلع الأول باستمرار، والتاني في كلية تجارة، سنة ينجح وسنة يسقط، عارفين أنا قلقان على مين؟ على المهندس؛ لأن اللي أتعود يكون الأول على طول وإن نجاحه لازم يكون مبهر، شخص مش عايش حياة طبيعية، واحتمالات فشله في الحياة العملية بعد الدراسة أكبر من اللي عاش حياة متوازنة عرف فيها النجاح والفشل، الارتفاع والانخفاض، وهيتفاجئ إن اللي مشي عليه طول عمره وأتقنه وكان بيخليه الأول مش كافي ومش هيقدر يحافظ على المركز الأول وهيعاني للسبب ده".

كان ذلك في إحدى محاضرات مادة العلوم السلوكية، وهي من المواد التي كنت وما زلت أعشقها، وهي العلوم المعنية بمحاولة فهم السلوك ودوافعه سواء في الإنسان أو الحيوان، وينبثق منها علوم فرعية كثيرة على رأسها علم النفس، وعلوم التواصل، وعلم السلوك الوراثي.. إلخ.

ويبدو أن حصولي على الدرجة النهائية جعل أستاذي يظن أني "منهم" فقرر إنقاذي، بوضعي تحت ضغط نفسي رهيب، يفتح مسارات الذاكرة؛ لتنقش فيها الكلمات فلا تنسى، وهو ما حدث فعلاً.

لم أكن ممن يحصلون على الدرجات النهائية في جميع المواد، ولم يكن تفوقي في تلك المادة وبعض المواد الأخرى بعينها له سبب سوى أني أحبها، عندي ألفة طبيعية معها، أستمتع بدراستها، كأنها شيء أعرفه بالفطرة والدراسة تذكرني به لا أكثر أو تضع له عناوين اجتمع الناس عليها.

تعاودني ذكريات هذا الموقف كل عام في توقيت ظهور نتائج الثانوية العامة، "بعبع" التعليم المصري. وأود لو نقلت رأي أستاذي المتخصص إلى كل أب وأم يحول البيت إلى ثكنة عسكرية ويعلن الأحكام العرفية مع بداية العام الدراسي ويحاسب أولاده حساب الملكين على الدرجة والنصف درجة. أود لو عرفوا أن الدراسة بأكملها بما في ذلك الثانوية العامة ليست بالأهمية التي "تعودنا" و"نشأنا" على منحها إياها.

فالنجاح في الحياة ليس مشروطاً أبداً بدرجات، أو بترتيب، وليس حكراً على تخصص معين.

منذ عام تقريباً وقع في يدي الخطاب أعلاه، المرسل من إحدى المدارس الابتدائية في قرية من قرى إنجلترا، كمرفق مع النتيجة السنوية لكل طالب، الخطاب يمدح التزام الطالب بدخول الامتحان ويتضمن توضيحاً هاماً لا يكتمل تقييم الطالب دون أخذه في الاعتبار يقول الخطاب:

"من صحح الاختبار لا يعرفك كما يعرفك مُدرسك، أو كما تعرفك عائلتك، لا يعرف إن كنت بارعاً في عزف الموسيقى، أو الرقص، أو الرسم. لا يعرف كم من أصدقائك يعتمد على مساندتك. لا يعرف أنك قد تنظم الشعر، تؤلف الأغاني، أو تتقن ممارسة رياضة معينة. لا يعرف أنك قد ترعى أخاك أو أختك الأصغر بعد اليوم الدراسي. لا يعرف أنك ربما سافرت إلى مدن بعيدة جميلة، ولديك حكايات كثيرة تتقن سردها. لا يعرف أنك جدير بالثقة. لا يعرف أنك طيب وعطوف. لا يعرف أنك تحاول كل يوم أن تكون أفضل مما كنت بالأمس. درجات الاختبار تعرفك شيئاً عن نفسك، لكنها ليست أنت. النتيجة مرفقة، كن فخوراً بها، وتذكر أنها ليست كل شيء، ليست أنت."

قمت بترجمة الخطاب، ونشرته على صفحتي الشخصية على الفيسبوك، وأذهلني أن تمت مشاركته أكثر من ألف مشاركة، واقتبسته مواقع وصفحات أخرى ونشرته، عدد المشاركات المباشرة من صفحتي تجاوز عدد من أتشرف بوجودهم على الصفحة، كل تلك المشاركات والإعجابات وشت بأن كلماته مست وتراً حساساً في نفوس الكثيرين.

كل التعليقات أثنت على الخطاب وألقت بالكرة في ملعب مدارسنا القاصرة عن تبني مثل تلك الرؤية. المدرسة البريطانية قطعاً تستحق الثناء، لكن المدرسة ليست هي اللاعب الأوحد في تشكيل وجدان الطفل، دور البيت والأم بالذات أهم في زرع تلك المبادئ في وجدان الصغار.

أثمن ما يمكن أن تعلمه لطفلك منذ نعومة أظفاره هو كيف يرى نفسه؟ كيف يفكر فيها؟ وما معنى النجاح؟ أن تزرع فيه الاعتزاز بنفسه، والقبول لها فيكون عنده من الأمل والإلهام ما يخلق به رؤية خاصة لمستقبله يوظف فيها مميزاته صغرت أو كبرت وفي أي مجالٍ كانت.

قليل من الأمهات من تعي ذلك، كلنا نميل لوضع أبنائنا في قوالب صنعها المجتمع، ونطالب أبناءنا بأن ينجحوا بمعايير تلك القوالب!

لم يكن أهلي من المتشددين في موضوع التفوق الدراسي، لكن لم يخلُ الأمر من الخضوع للثقافة السائدة. كنت سعيدة الحظ بأستاذي والدرس المهم الذي لقنني إياه وأنا دون العشرين من عمري، وما زال منقوشاً في ذاكرتي وأثّر على تعاملي مع أبنائي.

وأتوقف هنا لأقول إن "الأستاذ" فعلاً هو من ينتهز كل فرصة سانحة ليزرع قيمة أو معلومة مهمة في وجدان من "يحتاجها"، فلم يكن ما قاله أستاذي له علاقة بموضوع المحاضرة التي ألقاها يومها، لم يكن الرجل يؤدي واجبه و"خلاص"، كان يؤدي "رسالة"، تطلبت منه أن يصحح أفكاراً ظنها تعشش في رأسي. كم أستاذ يفعل ذلك؟! كم منا ينظر إلى عمله على أنه رسالة وليس واجباً يؤديه مقابل أجر وينتهي الأمر؟..

يؤلمني أن أرى من يدرسون مواد يرونها معقدة، يكرهونها، وكأنهم مساجين يقضون فترة عقوبة، يؤلمني أن أرى من يعاني لينهي رسالة دكتوراه أو ماجستير ويشكو مر الشكوى وكل ما يشكون منه له سبب واحد: "فقدان الشغف".

أود لو فهم كل ولي أمر وكل طالب يسعون فعلاً للنجاح أن "الشغف" هو روح النجاح!

افعل ما شئت، ادرس ما شئت، بل انجح وارتفع في الدرجات الوظيفية والاجتماعية كما شئت، إن لم يكن ما تفعله هو "شغفك" وما "تحبه" فنجاحك ناقص ومزيف، وستكتشف ذلك عاجلاً أو آجلاً!

إذا لم تعرف طبيعة طفلك وتحسن توجيهه تخسر ويخسر حتى وإن نجحت في الضغط عليه، حتى وإن دفعته لمجال وبذل فيه جهداً وبدا ظاهرياً أنه ناجح، سيظل بداخله ألم ومعاناة تنتقص من سعادته ونجاحه.

أي نجاح لا يسعد قلبك في كل مراحله، وأنت تخطط له، وأنت تنحت الصخر لتحققه، وأنت على قمته.. نجاح ناقص!

وكلمة أخيرة لمن يشعر أنه أخفق، سواء كان الإخفاق عدم الحصول على درجة معينة، أو حتى رسوب، تذكر أن بعض الطرق يقودنا إليها القدر قسراً، لا ليعاقبنا لكن كتصحيح إجباري للمسار، لا تبتئس، فقد يكون في باطن الألم الرحمة، لو أحسنا التفكير.

الحياة أكبر من أن تختزل في حدث، أو أزمة أو تجربة مهما كانت أهميتها. القرار السليم في كل الأحوال، أوله سؤال ما هي الخطوة الصحيحة التالية؟ ليس عليك أن تضع لحياتك تصوراً كاملاً الآن، فقط فكر ما هي أفضل خطوة تالية يمكنك أن تخطوها؟ ولا تتأخر في اتخاذها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل