المحتوى الرئيسى

تركيا.. تحديات الصراع وتوازنات القوة

07/27 09:51

ولجت تركيا خلال العقدين الأخيرين نادي الكبار عالميا تحت قيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ حيث نقل البلاد اقتصاديا لمرتبة متقدمة في سداد الديون وانتعاش السياحة وارتفاع قيمة العملة، وهذا النجاح الاقتصادي جعل من تركيا لاعبا دوليا وإقليميا قويا ومؤثرا.

لقد انتهجت القيادة التركية سياسة "العمق الإستراتيجي" التي تعتمد في جوهرها على القوة الناعمة, ورغم نجاح سياساتها عبر شبكة علاقات دافئة مع الجوار الإقليمي، فإن القوة الصلبة من أبرز أدوات السياسة التي تحقق الإرادة السياسية في عالم مضطرب، وفي جوار ساخن يبدو مناخه دافئا لصناع الحروب والنزاعات، وملتهبا للدول التي يجري فيها مخاض مشروع أقاليم الدم الذي يمتد بحرب دافئة سمتها الأساسية أنها مركبة وتعتمد في ديمومتها على التنظيمات المسلحة الطائفية التي تنتشر وتتناسل في بيئة "الحرب الدافئة " التي استمرت منذ غزو العراق 2003 وحتى اليوم، وقد التهمت دولا عربية وحولتها إلى دول فاشلة ومجتمعات ممزقة.

إنه الواقع الحربي الساخن في الشرق الأوسط الذي يجافي فكرة العمق الإستراتيجي لـ "داود أحمد أوغلو"، ولعل من نتائجه هذا الانقلاب الفاشل الذي يصعب التكهن بعدد الجهات التي تقف خلفه، ويمكن الجزم بعدد الدول والجهات المستفيدة منه الداعمة لنظرية الفوضى وهدم الدول، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن تركيا شهدت طيلة العقود الماضية عدة انقلابات، أضرت بالحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، حيث أعادت المحاولة الانقلابية الفاشلة على الرئيس رجب طيب أردوغان إلى اﻷذهان تاريخا طويلا من الانقلابات العسكرية بدء من انقلاب عام 1960، كأول انقلاب منذ إعلان الجمهورية التركية مرورا بانقلاب 1997 وأخيرا 2016.

يفرض الموقع الجيوستراتيجي والعسكري لتركيا مهام وأدوارا متعددة؛ بعضها إقليمي توافقي والآخر دولي متضاد يشكل مشروع أزمات متسلسلة، ولعل من أبرز تلك التداعيات والتحديات تحول النظام العراقي من دولة قوية فاعلة تشكل حلقة توازن في التوافق مع تركيا إلى دولة مكونات وطوائف خالية التأثير في معادلة التوازن الإقليمي، خصوصا أن العراق قبل 2003 كان يشكل البعد الرابع في معادلة الردع المتبادل الرباعية الأركان ( الجيش التركي، الجيش العراقي، الجيش الإيراني، الجيش الإسرائيلي) وبعد انهيار الركن الأساسي الذي يمثله العراق كركيزة توازن عربي إقليمي من جانب، وركيزة توازن إقليمي دولي من جانب آخر أصبحت تركيا والعرب أمام خيارات صعبة وتحديات ترتقي للتهديدات المصيرية، خصوصا في ظل تمدد القوة "اللامتناظرة" (المليشيات والتنظيمات المسلحة التي تدار عن بعد).

كما أصبح الجنوب التركي محل تهديد دائم نظرا للتجاذبات الإقليمية وهوس التوسع الإيراني والانتهازية الغربية بترك الشرق الأوسط يغرق في مستنقع الحرب الدافئة التي تخطت عقدا من الزمن وأضحت تقضم الدول وفق نظرية الدومينو، ولعل تفاقم الموقف وتطور النزاعات والصراعات والتدخلات جعلت المنطقة تتحول من كتلة جيوسياسية إلى مسرح حرب مستدامة.

كما شكلت الحرب في سوريا وظهور داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) عامل تهديد آخر لتركيا كونها تقضم المجال الحيوي التركي وتهدد الأمن القومي التركي، وأصبحت تركيا بين سندان تحالفها مع الناتو وأميركا ومطرقة التوغل الروسي الإيراني وظاهرة تناسل التنظيمات والمليشيات المسلحة التي تخوض حروبا شرسة على تخومها في سوريا وتخترق حدودها السياسية، ناهيك عن التحول الدولي نحو دعم حزب العمال الكردستاني واستعادة نشاطه الإرهابي ضد أمن تركيا وسلامة مجتمعها، وأضحى من الصعب تحقيق التوازن السياسي في هذا المناخ الذي يعج بالاضطرابات والخلافات والاحتدام غير المعلن بين الكبار.

شهدت الجمهورية التركية منذ تأسيسها تدخلات عديدة للجيش في الحياة السياسية من خلال أربعة انقلابات عسكرية، اثنان منها أديا لتغيير الحكومة دون سيطرة الجيش على مقاليد الحكم، لكن تلك الانقلابات جميعها كانت لها عواقب وخيمة على البلاد، وأزهقت الكثير من الأرواح، وهناك رفض شعبي تؤيده الأحزاب السياسية حتى المعارضة منها لثقافة الانقلابات.

ويبدو أنه في ليلة الانقلاب الفاشل (ليلة 16 يوليو/ تموز 2016) غابت العقلانية عن عقول صناع إعلام الأزمات، حيث لم يتم النظر لتداعيات الموقف في تركيا وماذا لو دخلت تركيا نفق الفوضى الهدامة والحرب الأفقية وتأثيراتها على أوروبا والدول العربية كافة والدول الإقليمية، ويبدوا أن التحليل الإستراتيجي هو الآخر قد غيب من عقول صناع القرار خصوصا أن داعش وبقية المليشيات الرديفة تحتل دولا تقدر بمساحة أوروبا.

ويذكرني هذا الموقف بقطبية الإعلام في تأييد غزو العراق دون مبررات وبلا شرعية دولية، وعندما نتأمل ونحلل التصريحات الأولى المنسوبة للانقلابيين والتي تؤكد أنه سيتم العمل بالدستور وفرض الأحكام العرفية، وأن الدولة يديرها الآن "مجلس سلام" سيظهر لنا أن الانقلاب ساهمت به جهات عديدة؛ فإيقاف العمل بالدستور وتشكيل مجلس سلام ليست من أبجديات الخطاب العسكري.

ومن وجهة نظري فإن ما حصل هو محاولة انقلاب سياسي دستوري بأدوات عسكرية. وفي ظل الارتباك في الموقف وتسويق الإعلام له على أنه انقلاب للجيش ضاعت الحقيقة، والدليل أن الجيش نفسه ساهم في إجهاض الانقلاب وإفشاله.

يعد الجيش التركي من أفضل وأقوى الجيوش إقليميا ويمتاز بالحرفية العسكرية والخبرة القتالية والتنوع المسلح، وهو ثاني أكبر قوة في حلف الناتو حتى بعد الانقلاب، وكما أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرج الأربعاء فإن حملة التطهير التي شملت آلاف العسكريين بالجيش التركي في أعقاب انقلاب فاشل لم تضعف القوات المسلحة للبلد العضو في الحلف.

وقال ستولتنبرج على هامش اجتماع لمسؤولي دفاع من أكثر من 30 دولة تشارك في الائتلاف الذي يقاتل تنظيم داعش إن "تركيا لديها قوات مسلحة ضخمة، وهي قوات مسلحة محترفة، وأنا على يقين أنهم سيستمرون كشريك ملتزم وقوي في حلف شمال الأطلسي". وهذا الكلام يؤكد أن الجيش التركي أمام أدوار مهمة منها:

1- حماية المجال الحيوي التركي.

2- حماية المجال الحيوي العالمي ضمن نطاق التماسك الجيوقاري بين آسيا وأوروبا والجنوب العربي وحوض المتوسط.

4- صيانة معادلة التوازن الإقليمي.

5- حماية تركيا من الاعتداءات الخارجية.

تبرز هنا التحديات الكبرى ما بعد فوضى الانقلاب التي كانت تستهدف زعزعة كيان الدولة التركية وإضعاف قدرتها العسكرية المسلحة، ومالم يبرزه الإعلام هو أن الجيش هو من أجهض الانقلاب عسكريا من خلال قواته الجوية والتشكيلات البرية والبحرية بالتعاون مع بقية القوات المسلحة من الأمن والمخابرات ومساندة الشعب وفي هذه المواقف الحرجة تبرز الحكمة وحسن إدارة الأزمات.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل