المحتوى الرئيسى

''صلاح'' و''عبد الخالق''.. توأم حمل السجن إلى الحياة

07/26 19:49

"أول ما خَطيت برجلي بره سور السجن مكنتش فاهم ولا حاسس أى حاجة، مش مستوعب إنى خرجت وبحاول افتكر وشوش الناس اللي قدامي" قالها صلاح الدين واصفًا مشهد لن ينساه أبدًا، مُسترجَعًا إحدى اللحظات الفاصلة في حياته، يوم وطأت قدماه خارج سور السجن للمرة الأولى بعدما قضى داخله عامًا كاملًا.

ورغم قسوة التجربة المريرة التي خاضها صلاح الدين إلا أن جوار عبد الخالق له هونها كثيرًا. تآمرت الظروف على الصديقين، وكبلتهم الاعتقالات العشوائية وقت أحداث جامعة القاهرة 2014 بالأصفاد، ليخوضوا سويًا واحدة من أسوأ تجارب حياتهم معًا "السجن مؤلم جدًا على النًفس، والوحشة هى أصعب حاجة فيه، لكن وجود عبد الخالق معايا فرق كتير". 

لم يكن لهم في تلك الأحداث ناقة أو جمل كما يجزمون، غير أن لحية عبد الخالق كانت الذريعة التي تذرع بها أمن محطة جامعة القاهرة لإلقاء القبض عليه، ليبعث بدوره مع أحد الخارجين من قسم العتبة الذي اقتيد إليه ورقة تحوى الرقم الوحيد الذي يحفظه؛ رقم صلاح. بعد نصف ساعة من مكالمة هاتفية وردته كان صلاح يسأل عن صديقه بقسم العتبة ليقوم الضباط هناك بتفتيشه، حيازة متعلقاته الشخصية، والبحث في محتويات هاتفه "عرفوا من التابلت بتاعي إني شاركت في الثورة، واستجوبوني إذا كان ليا علاقة بالإخوان أو شاركت في مظاهرات رابعة، بعدها طلبوا مني استنى شوية على اعتبار إنى همشي، لكن اللي حصل إني اتحبست".

من قسم العتبة إلى نظيره في الجيزة، ثم إلى "تخشيبة" محكمة الجيزة حيث تم عرضهم على النيابة لتوجه لهم تُهم القتل العمد، الشروع في قتل 27 شخص، سرقة ممتلكات، التخريب، تهديد الأمن العام، الانتماء لجماعة ارهابية، حيازة سلاح أبيض، وحيازة سلاح ناري. وبعد تجديديات بالحبس على ذمة التحقيق استمرت نحو شهر، استقر بهم المقام في سجن وادي النطرون ليقضوا عقوبة لا يعلمون مدتها بسبب جُرمٍ لم يرتكبوه حتى إشعارٍ آخر.

"في السجن هتتعايش هتتعايش، معندكش حل تاني" حقيقة توصل لها الرفيقان بعد انقضاء الشهر الأول من حبسهم الذي لم يكونوا على عِلمٍ بطول مدته. في الزنزانة تتكدس مع أربعة وعشرون شخصًا، تأكل ما لا تحب، ولا تلبس من الثياب أنظفها، تسمع من الألفاظ أبشعها مصحوبًا باللكمات فتنتهك كرامتك. ترى أخرون يضربون بالكرباج فتنتهك إنسانيتك العاجزة، تُمنع عنك الزيارات أحيانًا، وتُصادر الكُتب أحيانًا أخرى باعتبارها من الممنوعات. تنتظر ساعات التريض بفارغ الصبر، وتقضى أيامًا أخرى لا ترى الشمس إلا من شُراعةٍ وفتحة في واحدة من الجدران الأربعة، ليضيف عبد الخالق بأنك قد تضطر في بعض الأحيان أن تتناوب مع البعض الوقوف أمام "نضارة –شباك- الزنزانة" لتستطيع التقاط نَفسًا خاليًا من الروائح الكريهة، مُستطردًا "نَفس الهوا اللي شميته أول ما خرجت من السجن ده بالدنيا".

كُلها أسباب اجتمعت وتضافرت فجعلت صلاح الدين لا يكف عن ترديد دُعاءٍ واحد ليلًا ونهارًا "اللهم سماءً بلا قيود" فتلك حسب وصفه ليست من المُسلماتِ، بل نعمة لا يُقدرها إلا من حُرم منها "بعد ما خرجت من السجن كنت بصحى الصبح كل يوم انزل امشىي في الشارع وسط الناس والعربيات تحت نور الشمس، ولما الهوا يخبط في وشي بليل ابتسم واحمد ربنا ع النعمة وانا بدعي مرجعش للسجن أبدًا مهما حصل".

كان الرفيقان يستعدان لأداء صلاة العصر بعد ليلة مُرهقة جفا فيها صلاح الدين النوم فعكف على قراءة "رأيت رام الله" وهو يحلم أن يرى الحياة مرة أخرى بعيون الحرية كما رأى مُريد رام الله. افتُتحت الزنزانة ودخل حارسها ليسأل عن عشرة أشخاص ضمنهم عبد الخالق وصلاح "نباطشي العنبر قال جهزوا نفسكوا عشان عندكوا جلسة، احنا عارفين مواعيد جلساتنا كويس وبالتالى كنا عارفين إن معندناش أى جلسات، بصيت لعبد الخالق ساعتها، وفهمنا إنه إخلاء سبيل". تمت الإجراءات ببطىء، وبعد نحو اثنتي عشر ساعة، افترقا للمرة الأولى منذ حبسهما ليتوجه كُل منهم إلى منزله قُرابة الثالثة فجرًا.

داخل منزله؛ كان صلاح الدين يعاني حالة من الذهول التام، نظراته زائغه وعيناه تتفحصان المكان حوله بدقة كأنه يراه للمرة الأولى "استغربت جدًا لأن أول حاجة لفتت نظري مستوى النضافة اللي عليها البيت، لأن أقصى مستوى نضافة ممكن توصلها الزنزانة متساويش البيت وهو في أسوء أحواله الفوضوية". كُل شيىء يبدو له غير مُعتادًا وربما غير منطقي أيضًا "فكرة وجود كراسي في البيت بالنسبة لواحد عاش سنة بين أربع حيطان ومشافش غير الأرض حسستني إن وجودها رفاهية".

بين الأهل والأصدقاء الذين يتوافدون قضى صلاح ساعاته الأولى في المنزل، وحين انفضت جلسة جَمعهم أخذ يتجول مُستكشفًا الأشياء حوله بانبهارٍ شديد كما الأطفال في طور تعرفهم على الأشياء "مكنتش مستوعب إن لسه في معالق معدن، مسكتها بمنتهى الدهشة، ورغم كده مقدرتش أكل، فضلت يومين تقريبًا من غير أكل، معدتي رافضة كل حاجة"، النقود هى الأخرى كانت أمرًا جديدًا عليه فالشاب العشريني قضى عامًا كاملًا يتعامل خلاله بنظام المقايضة، ففي السجون تعد "خراطيش" السجائر بمثابة نقود رسمية يدفعها للمساحين للحراس والضُباط لتسيير احتياجاتهم.

في غُرفته التى بدت شديدة الاتساع مُقارنة بالزنزانة؛ جلس صلاح الدين على حافة سريره ينعم للمرة الأولى بعد قسوة شهورٍ طويلة بلين الفراش ودفئه، ولكن جفنه أبى أن يغمض لحظتها وظلت حدقتاه مُتسعتان من الدهشة "معرفتش أنام على سريري وفضلت صاحي لأيام متواصلة وأنا مستغرب كل شيىء حواليا". أيام عصيبة قضاها صلاح الدين "كنت بحلم بالسجن كل يوم، وأفوق على كوابيس دايمًا بإني رجعت تاني هناك". 

كانت أيام عبد الخالق الأولى بمنزله ثقيلة، قضاها بين الجلوس في غُرفته وحيدًا، والذهاب لبيت الراحة على بُعد أمتار من الغرفة بين الحين والآخر، ليس لقضاء حاجته، ولكن لتأمله وكأنه مزار سياحي تقع عليه عيناه للمرة الأولى "لما كنت بدخل الحمام، كنت بحس براحة شديدة من ريحة النضافة اللي بتفوح منه، عارف انى هاخد راحتى مهما طوّلت ومحدش هيخبط عليَّ يقول (يلا..)". بعد مرور يومين من عُزلته بالغرفة قرر عبد الخالق كسر حاجز الصمت والخوف معًا ليستشعر الحرية التى فقدها منذ عامٍ مضى "نزلت أشترى حاجة من السوبر ماركت على أول شارع بيتنا، ورغم أن المشوار قصير إلا إني رجعت تعبان جدًا جسمي مش متعود ع المشى والحركة، وحاسس إني مش عارف أتعامل مع الناس".

"بعد ما خرجت من السجن عانيت مبقتش عارف أتكلم في المواضيع اللي بيتكلموا فيها الناس، ولا قادر أفهم حتى الإفيهات اللي بقت تضحكهم"، يقولها صلاح الدين، راويا تجربته التي تنطبق على عبد الخالق: "قبل ما يتقبض عليَّ كان معروف عني إنى شخص اجتماعي بيحب الخروج ومقابلة الناس، بس بعد ما خرجت من السجن مبقتش قادر أعمل ده ولا أتكلم مع أي حد".

الخوف، هو البذرة التي يزرعها السجن فى النفوس. صراعات كثيرة تدور برؤوس وصدور من تعرضوا للحبس بين أربعة جدران حسبما أكد عبد الخالق "لما خرجت من السجن، كنت ببقى مرعوب وأنا ماشي في الشارع من فكرة إني ممكن أتشد وأرجعله تاني في أى وقت"، وبين محاولة الانفلات من براثن الخوف والرغبة في استعادة حياته الطبيعية كما كانت مرة أخرى يقول صلاح الدين "بعد أربع شهور من خروجي من السجن ابتديت أحاول استرجع حياتي تانى بعد ما كنت فقدت إيماني وثقتي بكل شيء".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل