المحتوى الرئيسى

«عشرة آلاف طفل ذهبوا لتحرير بيت المقدس».. سرديةٌ أخرى لتاريخ الحملات الصليبية - ساسة بوست

07/23 15:33

منذ 26 دقيقة، 23 يوليو,2016

عشرة ملايين جندي، إلى الحرب قد ذهبوا

ربما لن يعودوا مرة أخرى

عشرة ملايين قلب أم حريّ به الانكسار

أسفًأ لهؤلاء ..من ماتوا عبثًا وبلا معنى

المطلع السابق لواحدة من أشهر الأغنيات المعادية للحرب، وعلى الرغم من أنها قد كًتبت مطلع القرن الحادي والعشرين، إبان الحرب العالمية الأولى، إلا أنها تنطبق تمامًا على سلسلة من الأحداث قد حدثت قبل كتابتها بحوالي سبعة قرون. في هذا التقرير نطلّ على هذه الأحداث.

1-وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة

ذات نهار ربيعي في العالم 1212، في «سانت دينيس» في فرنسا، خرج راعي أغنام يدعى «ستيفان»، ذو اثني عشر ربيعًا، حاملًا في يده خطابًا موجهًا للملك «فيليب الثاني»، ملك فرنسا، مدعيًا فيه أن المسيح بصفته وشخصه قد تجلى له، وطلب منه مباشرة الدعوة لحملةٍ «صليبيةٍ» جديدة؛ لتحرير بيت المقدس. لم يأخذه الملك على محمل جاد، طالبًا منه العودة لرعاية أغنامه، إلا أن «ستيفان»، معتقدًا أن بإمكانه محاكاة «بطرس الناسك» قائد الحملة الصليبية الأولى، قد أصر على الخروج ومباشرة الدعوة باسم المسيح؛ لعبور البحر، مبشرًا أن البحر سينشق لهم كما انشق لموسى من قبل.

متبوعًا بحوالي عشرين ألف تابع (اختلفت الروايات بين العشرة آلاف والعشرين والثلاثين ألفًا)، معظمهم أطفال دون الثانية عشر، خرج ستيفان مع حشده الضخم في رحلةٍ مقدَّسة لتحرير بيت المقدس من أيدي المسلمين، إلا أن أحدًا منهم لم يعد من رحلته أبدًا.

بطرس الناسك متقدمًا الحملة الصليبية الأولى، لوحة للفنان تن هوورن

في رواية أخرى، غير تلك التي قد كتبها المسلمون بانتصارهم في موقعة «حطّين»، فالزاوية الجانبية للتاريخ تسرد حكاية مختلفة، عن حملة صليبية لم تعترف بها الكنيسة قط، بالرغم من أنها أكثر الحملات الصليبية إخلاصًا لها، و»لمشيئتها». ليست حكاية عن نزاع سياسي أو خصومةٍ دينية، وإنما مزيج من الاثنين؛ دين تم توظيفه ليخدم رغبات سياسية بالأساس، وسياسة أرست قواعدها من وراء الدين كحجاب، وعشرون ألفًا من مغسولي الأدمغة، الذين آمنوا، لفرط براءتهم، بقدرتهم على إنجاز ما قد عجز الجيش الرسميّ عن تحقيقه.

2-«وفي ذهابه إلى أورشليم اجتاز في وسط السامرة والجليل»*

لنتخيل المشهد: ما يقرب من العشرين ألف، معظمهم من الأطفال، محتشدين في مسيرة على الأقدام من مدينة «فندوم»، متجهين نحو الجنوب لنهر الراين، كمحطة أولى في رحلتهم لبيت المقدس، مع قناعة تامة أن مهمتهم إلزاميةمن قبل الله، وبقيادة طفل يماثلهم في العمر لا يملك دليلًا واحدًا على صحة ادعاءاته، ولا يملك أية سلطة،فيما عدا بريق ضوء لمحه في السماء!

قد يبدو المشهد شديد السريالية للوهلة الأولى، إلا أن تناوله في سياقه الزمني يجعله مقبولًا بدرجة ما؛ فقد كانت الديانة المسيحية في أوج عنفوانها آنذاك، ولم تكن سلطة الكنيسة دينية فقط، بل دنيوية أيضًا، متمثلة في الدولة «البابوية» التي أسست لحكمها منذ بدايات القرن الحادي عشر، بالتالي، فقد كان من مصلحة الحكام أن تلتصق رغباتهم بالكنيسة، ومن مصلحة الكنيسة أن يتبعهم العامة كقطيعٍ من الخراف.

التحالف بين الكنيسة والدولة مهد الطريق أمام الحكام نحو فلسطين، فجميع الحملات الصليبية كانت تُبارك من قِبل الكنيسة، أي من قِبل الرب، من ثم، وبالرغم من أن النزاع حول القدس سياسي بالأساس، إلا أن الصبغة الدينية التي تم إضفاؤها بمباركة الكنيسة (بنيّة استرداد بيت المقدس والصليب الحقيقي)، قد سهّلت مهمة الزحف نحو فلسطين في حملة وراء الأخرى، بإيهام الجنود أنهم في خدمة الرب.

لوحة تخيلية لستيفان في حملته، والتر هاتشينسن _لندن 1920

مع فشل أربع حملات صليبية سابقة لدخول القدس، تعاظمت موجة غضب عامة بين الشعب، غذتها هزيمة الجيش في موقعة حطين. الغضب والإحباط في تلك الفترة كانا بمثابة عوامل محفزة، قد وضعت أفراد الشعب في درجات التأهب القصوى؛ في انتظار أية معجزة. كما أن الربط الأزلي بين التقشف والزهد ودرجة الورع، مع الأخذ في الحسبان أن «ستيفان» راعي الغنم المتقشف تمتع بالفصاحة اللازمة، كلها كانت عوامل أكثر من كافية لتصديق العامة لرواية ستيفان، بالرغم من عدم منطقيتها، ومبايعته في رسالته وأتباعه للجانب الآخر من العالم؛ هربًا من عناء العمل في المزارع، مع وعد بحياة آخرة أكثر رخاءًا في جنة عدن.

لكن ستيفان لم يكن على تلك الدرجة من التقشف، فمع بداية المسيرة رفض ستيفان مرافقتهم سيرًا، وأصر على وجود عربة تحمله، مع مظلة تحميه من الشمس. إلى جانبه ركب النبلاء من أتباعه، ممن يقوى منهم على امتطاء حصان، أما العوام فحملتهم أقدامهم، ليس إلا. ومع ذلك، لم يجرؤ أحدهم على التشكيك في صدق نوايا ستيفان، بل على العكس، تمت معاملته كقديس، والاقتتال على جمع ما يسقط من شعر جسده، أو بقايا ملابسه، كقطع ثمينة تستحق الاقتناء.

3-«ويذهب لأجل الضال حتى يجده»*

على الرغم من عدم مباركة الكنيسة للحملة بصفة رسمية، إلا أن ما أكسبها تفرّدها عن سائر الحملات، أنها حملة ذات واعز ديني بحت. ببساطة، الحملة قادها مجموعٌ من الأطفال غُرس الإيمان داخلهم، كوعيٍ جمعيّ يقودهم. لم يكن لهم قائد سياسي، ولا حتى أهداف خفيّة تؤسس للحكم الكنسي في أوروبا، بعكس بعض الحملات الأخرى التي باركها البابا إنوسنت الثالث، والتي قد ضلّت بوصلتها تجاه القدس؛ وتوغلّت في المقابل داخل أوروبا؛ لمحاربة الزنادقة. أما حملة «الأطفال الأنقياء» فقد كانت على قدر نقائهم، رغبتهم في بيت المقدس كانت عن اقتناع تام بأحقيتهم فيها؛ كمهدٍ للسيد المسيح. وعند لحظة ما، فكر الأطفال أن لنقاء أرواحهم سيرعاهم الرب، ويبارك حملتهم بمعجزة، ولكن، بالنظر للمصير المؤسف الذي انتهت إليه الحملة، يمكن القول إن لـ «الربّ» تدابير أخرى.

ملك انجلترا مقبّلًا قدم الأب إنوسنت الثالث

الرحلة نفسها كانت شديدة الإيلام؛ فمع الحرارة المرتفعة، اعتمد الأطفال على سد حاجتهم بالمساعدات الخيرية، التي سرعان ما انقطعت؛ بسبب الجفاف الذي لم يترك فائضًا في مخازن المدينة. ومع قرب وصولهم لمارسيليا كان قد توفي بعضهم، وحاول البعض الآخر معاودة أدراجهم ثانية، أما الغالبية فقد خرجوا في الصباح التالي واصطفوا أمام البحر؛ منتظرين حدوث المعجزة؛ لينشق البحر أمامهم. ولما لم تحدُث، عرض اثنان من كبار تجار مارسيليا أن يقلّا الأطفال في سفنهم نحو القدس، دون مقابل؛ لتحقيقِ مشيئةِ الربّ، قبِلَ ستيفان العرض على مضض، وخرجت سبعة سفن تحمل على متنها أطفال الحملة جميعًا، ينشدون أناشيد النصر، حتى أخفى أثرها البحر، ثم انقطعت أخبارهم بعد ذلك؛ حيث مضى ثمانية عشر عامًا قبل أن يسمع عنهم مجددًا.

4- «ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسرّ، لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوُجد»*

في عام 1230، وصل من الشرق لفرنسا كاهنٌ ذو أصل فرنسي، لديه حكاية مثيرة ليرويها. مدعيًا أنه واحد من الأطفال الذين رافقوا ستيفان في حملته قبل ثمانية عشر عامًا من شواطىء مارسيليا، ركوبًا في سفن التجار. حكى الكاهن أن عاصفة قاسية تسببت في تحطم سفينتين من أصل السفن السبعة على جزيرة سان بيترو، جنوب غرب ساردينيا، متسببةً في غرق حوالي ألف من أطفال الحملة. أما السفن الخمس الأخرى الناجية، فقد وجد ركابها أنفسهم محاطين من قبل أسطول بحري مسلم، مكتشفين أن قد تم اختطافهم بالاتفاق مع التجار ليتم بيعهم في الأسر.

لوحة من مجموعة”تاريخ الحملات الصليبية” للفنان جي إف ميتشواد، يظهر فيها أطفال الحملة في مسيرتهم نحو الجنوب

لم يصل الأطفال إلى أورشليم قط، في المقابل، فقد أرست بهم السفن على سواحل المغرب ومصر، بالتحديد في أسواق الرقيق. تبعًا لرواية الكاهن فقد كان العدد المتبقي آنذاك حوالي سبعمائة، تم شحن بعضهم لأسواق العبيد في بغداد، ليتم اتخاذ مجموعة منهم كغلمان للتجار، آخرون كخدم في القصور، بعد إخصائهم بالطبع، وثمانية عشر طفل منهم قتلوا؛ لرفضهم الدخول في الإسلام، الغريب في الأمر أن ستيفان نفسه لم يظهر له أي أثر خلال كل تلك التداعيات!

أما في مصر، ومع الأسرى النبلاء ذوي العلم منهم، فقد كانوا أكثر حظًا؛ حيث اشتراهم الخليفة؛ لاهتمامه باللغات الأجنبية، وقام بتوظيفهم في القصر، كمعلمين ومستشارين. كان الكاهن أحد هؤلاء الذين قضوا عمرهم في قصر الخليفة إلى أن تم تحريره، ليأتي لفرنسا، ينتهي من سرديته، ثم يختفي في غموضٍ مرة ثانية!

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل